يمثل الاقتصاد غير المنظم أو ما يطلق عليه "الاقتصاد الأسود" في شرق أفريقيا ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه، ويلعب دورا مؤثرا وحيويا في ديناميكيات الصراعات المسلحة بالمنطقة، إذ يوفر موارد مالية وهياكل اقتصادية تمول الجماعات المسلحة والإرهابية الناشطة، مما يساهم في إضعاف سلطة الدولة، ويديم عدم الاستقرار مع كل ما يرتبط به من تداعيات.
ويعرّف رئيس المنتدى الاستشاري للحكومة الفدرالية للاقتصاد الموازي مايكل شابير الاقتصاد الأسود بأنه مجموعة من أنشطة كسب المال غير المشروعة التي تحدث بشكل أساسي "خارج السجلات"، بعيدا عن أنظار ووعي المنظمين وصانعي السياسات والمسؤولين وجباة الضرائب والإحصائيين.
ورغم غياب أرقام دقيقة للحجم الكلي لهذا الاقتصاد في شرق أفريقيا فإن التقديرات تشير إليه باعتباره جزءا من التدفقات المالية غير المشروعة الكبيرة التي تسري في عروق الهياكل الاقتصادية الخفية، في حين يتجه قسم منها مغادرا إلى خارج القارة.

مصادر تمويل للجماعات الإرهابية والإجرامية
بالنظر إلى الاستغلال غير المشروع للموارد في أفريقيا كأحد الأنشطة المتفرعة عن هذا الاقتصاد فقد كررت تقارير رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي بشأن مكافحة الإرهاب التأكيد على دور هذا النشاط كمصدر تمويل رئيسي للجماعات الإرهابية في أفريقيا.
وأشار تقرير قُدّم إلى الدورة 1040 لمجلس السلم والأمن الأفريقيين إلى أن الجماعات المسلحة في أفريقيا تموّل عملياتها من خلال الاستغلال غير المشروع للموارد، والابتزاز، والصيد الجائر، من بين أساليب أخرى.
وعلى مستوى دولي فقد اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارات عدة، منها 2195 و2462 و2482، والتي أقرت بأن الاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية مصدر تمويل للجماعات المسلحة والإرهابية وكذلك للشبكات الإجرامية.
إعلان
ويذهب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن قيمة الاستخراج والتهريب غير القانونيين لبعض الموارد في شرق الكونغو الديمقراطية تتراوح بين 0.7 و1.3 مليار دولار سنويا، حيث يقدر الخبراء أن ما بين 10% و30% من هذه التجارة غير المشروعة تذهب إلى شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود المتمركزة شرق الكونغو الديمقراطية.
في المقابل، تمكن الأرباح التي تجنيها الجماعات المسلحة المتمركزة في الكونغو الديمقراطية من هذه الأنشطة من تأمين تكلفة المعيشة الأساسية لما لا يقل عن 8 آلاف مقاتل مسلح سنويا وتمويل ما لا يقل عن 25 جماعة مسلحة، حيث تستطيع الجماعات المهزومة أو المجردة من السلاح الاستفادة من هذه المداخيل لإعادة بناء نفسها والظهور باستمرار وزعزعة استقرار المنطقة.

الفحم شريان حياة "الشباب"
ويصف تقرير منشور عام 2018 على "فير بلانيت" -وهي منظمة غير ربحية تعنى بحقوق الإنسان والعدالة البيئية- الفحم بأنه "شريان الحياة لحركة الشباب" الصومالية التي أنشأت نظاما ضريبيا صارما على كل مراحل الدورة الاقتصادية للفحم، بما يتضمن ضرائب إنتاج على منتجي الفحم ورسوم نقاط تفتيش على الناقلين ورسوم موانئ وضرائب تصدير.
وتشير أرقام نشرتها منظمة "غريدا" -وهي منظمة بيئية- إلى أنه في أوائل العقد الأول من القرن الـ21 حققت الحركة ما بين 8 ملايين و18 مليون دولار سنويا من ضرائبها على حركة الفحم عند حاجز واحد فقط.
وفي تقدير نشرته "غريدا" عام 2013 تخمن أن إجمالي حجم صادرات الفحم غير المشروعة من الصومال تراوح بين 360 و384 مليون دولار سنويا.
وتقدر تقارير أممية القيمة الإجمالية لهذه التجارة عام 2018 بما بين 120 مليونا و150 مليون دولار سنويا، ويبلغ العائد السنوي للشباب منها نحو 7.5 ملايين إلى 10 ملايين دولار.
ولا يقتصر هذا الاستغلال غير المشروع على المعادن والفحم فقط، حيث تُستغل الأخشاب وموارد الغابات والفوسفات والغاز الطبيعي وصيد الأسماك أيضا بشكل غير قانوني في مناطق أفريقية مختلفة -بما في ذلك القرن الأفريقي– لتمويل الجماعات المسلحة.
الاتجار بمنتجات الحياة البرية وتهريب البشر
كما يشكل الاتجار غير المشروع بمنتجات الحياة البرية -بما في ذلك العاج- مصدر دخل مهما آخر للجماعات المسلحة، وتذهب تقديرات مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (يو إن أو دي سي) إلى أن هذه التجارة وحدها تدر نحو 400 مليون دولار سنويا في جميع أنحاء أفريقيا.
ويربط تقرير صادر عن "منظمة تعاون رؤساء الشرطة في شرق أفريقيا" بين الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين والمجموعات الإرهابية في شرق أفريقيا، إذ تفرض هذه المجموعات رسوما على المتاجرين والمهربين مقابل المرور الآمن في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها.
كما يتطرق التقرير إلى جوانب أخرى تستفيد بها المجموعات المسلحة من هذه الأنشطة غير الشرعية، إذ يخدم الاتجار بالبشر أغراضا إستراتيجية، كزيادة عدد الأعضاء من خلال التجنيد القسري ومكافأة المقاتلين بالوصول إلى الضحايا، إلى جانب استغلالها شبكات التهريب لتسهيل حركة المقاتلين وتزوير الوثائق، مما يسهل لها سبل القيام بأنشطة غير قانونية مختلفة.
ورغم عدم توفر أرقام دقيقة للمكاسب المتأتية من هذه الأنشطة فإن النظر في المداخيل المقدرة في مناطق أخرى يصلح للإضاءة على مقدار الاستفادة منها، حيث قدرت أرباح عصابات التهريب في ليبيا وحدها عام 2015 بما بين 255 مليونا و300 مليون دولار، في حين تشير التقارير إلى أن الأرباح السنوية لعصابات التهريب في اليمن وحده تقدّر بملايين الدولارات.
إعلان
تهريب المخدرات
يدرج تقرير صادر عن الشرطة الدولية "الإنتربول" الاتجار بالمخدرات كمصدر للإيرادات للجماعات المسلحة في شرق أفريقيا، مشيرا إلى أن تنزانيا تشكل جزءا من طريق رئيسي لإعادة شحن الهيروين الداخل إلى المنطقة، وأن كينيا لا تزال نقطة عبور للهيروين من أفغانستان إلى أوروبا كوجهة نهائية، وذلك بشكل رئيس عبر ميناء مومباسا.
وتربح المجموعات المسلحة في شرق أفريقيا من هذه التجارة الرائجة مستغلة هشاشة الحدود وصعوبة سيطرة القوى الأمنية عليها للتحكم في طرق التهريب وحراسة الشحنات مقابل رسوم أو نسبة من الأرباح.
ويشير تقرير للخارجية الأميركية إلى مشاركة حركة الشباب في تجارة الهيروين عبر إعادة بيعه إلى الجماعات الإجرامية، كما شارك بعض أعضاء الجماعات المسلحة من دارفور في تهريب المخدرات إلى ليبيا من خلال توفير ممر آمن لقوافل المخدرات.
ورغم أن المصادر تفتقر إلى أرقام دقيقة عن أرباح هذه التجارة غير الشرعية نتيجة للسرية التي تغلفها فإن تقريرا شاركت "الإنتربول" في إعداده يقيم التمويل السنوي لـ7 من المجموعات المسلحة والمتطرفة في أفريقيا -من بينها الشباب وبوكو حرام- بما يقارب مليارا إلى 1.39 مليار دولار سنويا من كل المصادر، معتبرا أن أهمها "تهريب وضرائب المخدرات".
تهريب المواد التموينية والوقود
تعد شبكات تهريب الوقود والمواد التموينية والسلع الاستهلاكية العابرة للحدود من مصادر الدخل الرئيسية للجماعات المسلحة في شرق أفريقيا، حيث تستفيد هذه الجماعات من هشاشة الحدود والطلب المتزايد على السلع المدعومة في بلدان تفتقر إلى مثل هذه الأشكال من الدعم، أو من تهريبها إلى مناطق النزاع حيث تتصاعد أسعارها بفعل الندرة.
وتفرض الجماعات المسلحة أشكالا متعددة من الرسوم على الشاحنات والبضائع العابرة للمناطق التي تسيطر عليها مقابل السماح بمرورها أو توفير الحماية، وعلى سبيل المثال تحقق نقاط التفتيش التي تنشئها حركة الشباب في الصومال عشرات ملايين الدولارات سنويا من الضرائب المفروضة على نقل الوقود والسكر والمواد الغذائية، وغيرها.
ويلاحظ مقال منشور على موقع "المبادرة الدولية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للدول" استمرار تدفق الشاحنات من الوقود من أوغندا إلى معابر غير رسمية تديرها الجماعات المسلحة في شرق الكونغو الديمقراطية حتى بعد قرارات المنع الرسمية.
بالمقابل، تعيد الجماعات المذكورة ونظيرات لها في جنوب السودان بيع شحنات الوقود المهربة بأسعار أعلى في الأسواق الداخلية أو تشرف على عمليات التوزيع داخل مناطق سيطرتها، مما يرفع من أرباحها.
وتوضح تقارير الأمم المتحدة خلال عام 2011 تحقيق حركة الشباب ما بين 400 ألف و800 ألف دولار سنويا من الضرائب على شحنات السكر المتجهة إلى كينيا فقط، وأوصلت التقديرات في تقارير لاحقة هذه الأرقام إلى ما بين 12 مليونا و18 مليون دولار سنويا.
وتقدّر بعض التقارير خسائر الحكومات في شرق أفريقيا من الضرائب المفقودة من كل عمليات التهريب غير المشروعة بما يشمل الوقود وغيره بنحو 1.6 مليار دولار سنويا، ويعد جزء كبير منها أرباحا مباشرة للجماعات المسلحة وشبكات الجريمة المنظمة.
تداعيات على الدولة والمجتمع
تمثل مصادر الدخل التي يوفرها الاقتصاد الأسود سببا رئيسيا في ازدهار الجماعات المسلحة بشرق أفريقيا التي تعد بدورها عاملا مهما في الهشاشة التي تعانيها دول المنطقة، في رجع صدى لعنوان تقرير صادر عن المعهد الدولي للسلام في نيويورك أطلق عليه "شرقي أفريقيا.. الأمن وإرث الهشاشة".
قدرة هذه الجماعات على الاستمرار والتكيف تكرس وجودها كأنظمة حكم بديلة في مناطق سيطرتها عبر أدوات "حوكمة قسرية" خاصة بها تتضمن الضرائب والسيطرة على طرق التجارة، مما يضعف العلاقة بين المجتمعات المحلية والدولة في تلك المناطق ويزيد نزيف شرعية الأخيرة ويرسخ لغيابها والاعتراف المحلي بسلطة الأمر الواقع.
إعلان
وتربط التقارير الحقوقية الأنشطة الإجرامية في الاقتصاد الأسود بانتهاكات جسيمة ومستمرة لحقوق الإنسان.
وفي هذا السياق، تستخدم التجارة غير المشروعة بالمعادن في شرق الكونغو الديمقراطية لتمويل الجماعات المسلحة التي تمارس وبشكل منهجي جرائم، كاغتصاب النساء والأطفال والتعذيب وعمالة الأطفال في المناجم، كما يُستخدم الاتجار بالبشر لنشر الرعب، حيث يُجبر الضحايا على ارتكاب أعمال إرهابية أو القتال.
وتعد تجارة السلاح جزءا خطيرا من "النشاطات التجارية" غير المشروعة للجماعات المسلحة في المنطقة، حيث توفر القنوات لانتشار واسع النطاق للأسلحة النارية، مما يغذي الصراعات الموجودة ويزيد درجات خطورتها، كما أنه يؤدي إلى زيادة أرباح جماعات الجريمة المنظمة، مما ينعكس سلبا على أمن مجتمعات المنطقة واستقرارها.
0 تعليق