بين الخيانة والبطولة.. ضابط صربي يختار الدفاع عن سراييفو التي أحبها - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تجسد مسيرة الجنرال الصربي يوفان ديفياك الذي دافع عن المدنيين البوسنيين إبان حصار سراييفو واحدة من أكثر التجارب الإنسانية تعقيدا في تاريخ حروب البلقان المعاصرة.

وتمثل هذه القصة نموذجا لرجل واجه خيارا مصيريا بين الانصياع للضغوط القومية والتمسك بالمبادئ الإنسانية، فاختار طريقا وعرا جعله مثار جدل واسع لعقود.

وتنطلق هذه الملحمة الإنسانية من جذور عميقة في التاريخ الشخصي لديفياك، إذ تشكلت شخصيته في ظروف صعبة منذ الطفولة، فقد شهدت سنوات تكوينه الأولى تجربة مؤلمة عندما تركت والدته زواجا غير سعيد وهو في الـ13 من عمره، مما حرمه من وجود الأب في حياته.

هذا الفراغ العاطفي المبكر ربما كان له الأثر الأكبر في تشكيل شخصيته المتعاطفة مع الآخرين وميله لحماية الضعفاء، وهو ما ظهر جليا في مراحل لاحقة من حياته.

واستعرضت حلقة (2025/7/10) من سلسلة "أفلام الجزيرة" هذه القصة بعمق، مسلطة الضوء على التحولات الجذرية في مسيرة ديفياك من ضابط في النخبة العسكرية اليوغوسلافية إلى مدافع عن المدنيين في سراييفو المحاصرة.

ولفهم هذا التحول، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي شهدته يوغوسلافيا في النصف الثاني من القرن الـ20، إذ عاش ديفياك سنوات الشباب في ظل النظام الشيوعي الذي أسسه الرئيس يوسيب بروز تيتو، إذ كانت التقسيمات القومية منضبطة تحت مظلة الأيديولوجية الموحدة.

ووصل إلى سراييفو عام 1966 كضابط واعد في الجيش اليوغوسلافي، وسرعان ما وقع في حب المدينة التي وصفها بأنها أجمل ما رآه في حياته.

ومع بداية التسعينيات، شهدت المنطقة تحولات جذرية عقب وفاة الزعيم الشيوعي تيتو وانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية، وصعدت إلى السلطة أحزاب قومية متطرفة استغلت المشاعر العرقية والدينية لتحقيق أهدافها السياسية.

الهجوم على سراييفو

وانهار حلم الوحدة اليوغوسلافية تحت ضغط هذه التوترات، وبدأت الجمهوريات المختلفة تعلن استقلالها الواحدة تلو الأخرى، وهذا أدى إلى اندلاع سلسلة من الحروب الدموية، وواجه ديفياك أصعب قرار في حياته عندما هاجم الجيش اليوغوسلافي، الذي كان يخدم فيه، مدينة سراييفو عام 1992.

إعلان

ورفض الرجل أن يكون جزءا من هذا الهجوم ضد المدينة التي أحبها، واختار البقاء مع سكانها المحاصرين، فاستدعته القيادة البوسنية وعرضت عليه منصب نائب قائد الجيش، وهو ما قبله رغم إدراكه للتعقيدات الهائلة التي ستواجهه كضابط صربي يحارب ضد جيش بلاده.

وامتد حصار سراييفو لما يقارب 4 سنوات، شهدت خلالها المدينة معاناة إنسانية لا توصف، وعاش ديفياك هذه المعاناة بشكل مباشر في الخطوط الأمامية، إذ كانت المسافة بين القوات المتحاربة لا تتجاوز 100 متر أحيانا.

وشارك المدافعون عن المدينة طعامهم القليل ونام معهم في الخنادق، وتحمل مثلهم ضراوة القصف اليومي وقسوة الشتاء بلا تدفئة كافية، وتعرض ديفياك لنقطة تحول عاطفية عميقة عندما زار أسرة فقدت 3 أطفال في قصف صربي.

وكانت الأم المنكوبة، هاليدا دابوياتشي، تتوقع أن يرفضها الجنرال الصربي أو يتجاهل معاناتها، لكنه فاجأها بدموعه الصادقة وتعاطفه العميق، وشكل هذا اللقاء بداية علاقة إنسانية استثنائية امتدت لعقود، إذ شجع ديفياك المرأة لاحقا على الإنجاب مرة أخرى رغم كبر سنها.

وحدث ما لم يكن متوقعا عندما أنجبت هاليدا توأمين في سن الـ45، لكنها فقدت أحدهما أثناء القتال ونجا الآخر بأعجوبة بعد أسابيع من العلاج المكثف.

ومر ديفياك بتجربة مؤلمة أخرى خلال حادثة تبادل الأسرى الشهيرة عام 1992، عندما تم احتجاز الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش رهينة.

وسعى ديفياك بكل قوته لحل الأزمة وحقن الدماء، لكن العملية انتهت بمأساة عندما قُتل جنود من الطرفين في ظروف غامضة، واتهمته السلطات الصربية بتدبير الحادث، بينما شكك بعض البوسنيين في ولائه، وهذا وضعه في موقف صعب للغاية.

وتأزم موقف ديفياك أكثر عندما استدعاه الرئيس بيغوفيتش عام 1994 وطلب منه التقاعد، وترك هذا في نفسه جرحا عميقا لم يندمل بسهولة، واختار الرجل البقاء في سراييفو رغم صعوبة الوضع، في حين غادر ولداه المدينة غير قادرين على تحمل التعقيدات والضغوط المحيطة بوالدهما.

نهاية الحرب

وانتهت الحرب عام 1995 بتوقيع اتفاقية دايتون للسلام، تاركة وراءها أكثر من 10 آلاف قتيل في سراييفو وحدها ومئات الآلاف من الأيتام في جميع أنحاء البوسنة، ووجد ديفياك في هؤلاء الأطفال المنكوبين رسالة حياته الجديدة، فأسس منظمة غير حكومية لمساعدة أيتام الحرب من جميع القوميات والأديان.

وأنفقت مؤسسة ديفياك على تعليم أكثر من 5 آلاف يتيم على مدى عقدين، مقدمة لهم المنح الدراسية والدعم النفسي والتوجيه المهني، وأصبح الرجل أبا بديلا لمئات الأطفال، يحضر حفلات تخرجهم ويفرح بإنجازاتهم ويساعدهم في بناء مستقبلهم.

وتعرض ديفياك لمحنة جديدة عام 2011 عندما اعتُقل في مطار فيينا بطلب من السلطات الصربية التي أرادت محاكمته بتهمة جرائم الحرب، وقضى 4 أشهر في الاحتجاز من دون معرفة مصيره، لكن حملة شعبية واسعة في سراييفو نجحت في الإفراج عنه من دون توجيه تهم.

وكانت هذه الحملة دليلا قاطعا على مكانة الرجل الخاصة في قلوب البوسنيين الذين اعتبروه واحدا منهم، وعاد ديفياك إلى سراييفو وسط استقبال شعبي حافل، وواصل عمله مع الأطفال الأيتام ونشر مذكراته عن تجربة الاعتقال.

إعلان

ورغم تجاوزه الـ80 من العمر، يؤكد الرجل أنه لا يشعر بالندم على خياراته، ويفخر بدفاعه عن مجتمع تعددي وجد في البوسنة منذ قرون.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق