ممر الشرف يصبح استعراضًا فارغًا وسط سطوة التريند على هيبة التقدير الحقيقي - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الإثنين 28/يوليو/2025 - 01:28 م

أضف للمفضلة

شارك شارك

في عصر تصنع فيه "التريندات" الأبطال وتُمنح فيه الألقاب بالتفاعل لا بالمنجز، تحوّل ممر الشرف – رمز الامتنان والتقدير – إلى استعراض لحظي يتغذى على الزخم الرقمي أكثر مما يستند إلى الاستحقاق الفعلي. لم يعد الأمر مرتبطًا بإجادة العمل أو أثره، بل بمدى إثارة الحدث أو تداوله، حتى وإن خلا من الجوهر.

في هذا المشهد، يغيب أولئك الذين يستحقون فعلًا التكريم: الطبيب الذي يسهر على راحة مرضاه، والمسعف الذي يركض نحو الخطر، والأستاذ الذي يزرع الأمل في العقول، والضابط والجندي والمهندس، الذين يؤدون أدوارهم في صمت، إيمانًا برسالتهم لا طلبًا للكاميرات ولا مطاردةً للايكات. هؤلاء يواصلون العطاء في الظل، لكنهم يرون كيف تُصنع "الأساطير الرقمية" في الضوء، وكيف يُكرَّم من يثير الضجيج أكثر ممن يصنع الفرق. ومع تكرار هذه المشاهد، يتراجع المخلصون خطوةً بعد أخرى، ويتوارى الصادقون خلف حواجز من الإحباط.

وفي المقابل، تُمنح الأضواء أحيانًا لمن لم يُختبر بعد. ومثال ذلك ما جرى مؤخرًا مع رئيس إحدى الجامعات المصرية، حين أثارت جملة "سامحوني إن قصّرت" موجة انتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي. لم يُفتح نقاش مهني حول الأداء، ولم تُفعَّل أدوات التقييم المؤسسية، بل جاء الرد من أنصاره عبر تنظيم ممر شرفي، بدا كأنه محاولة عاطفية لرد الاعتبار، دون أي مراجعة موضوعية لما قيل أو فُعل.

ليست المشكلة في التصفيق، بل في غياب المعيار. وحين يصبح الحشد الرقمي بديلًا للتقييم المهني، يختلّ ميزان التقدير. فتُستبدل معايير الأداء والنتائج بموجات تفاعل لحظي، ويُختزل التكريم في مشهد جماهيري، لا في أثر مستدام.

الأخطر من ذلك أن هذه التوجهات تفضي إلى إهدار القيم وتشويه منظومات الأولويات داخل المؤسسات. فتكريم من لا يستحق، أو تجاهل من يستحق، لا يؤذي أفرادًا فحسب، بل يبعث برسائل خاطئة عبر النظام كله. وتدريجيًا، تتراجع القيمة الرمزية للتكريم، ويتحول إلى مجاملة شعبية لا إلى أداة تحفيز أو إنصاف.

إن معالجة هذا الخلل لا يجب أن تكون بمحاسبة فردية لمسؤول هنا أو موظف هناك، بل تتطلب مراجعة أعمق للمنظومة القيمية التي توجه التقدير داخل المؤسسات. علينا أن نسأل: من نكرّم؟ ولماذا؟ وبأي أداة نقيس الجدارة؟ وهل يمكن أن نصوغ تكريمًا يستند إلى الأداء الفعلي لا إلى الضجيج الافتراضي؟ وألا يكون المعيار طول استمراره في منصبه واعتيادنا على "عشرته".

وعليه يضحى من الواجب على المعنيين البحث في توصيات عملية لإعادة الاعتبار للتقدير الحقيقي وتجويد العمل المؤسسي عبر إرساء نظم شفافة لتقييم الأداء تستند إلى مؤشرات موضوعية وتُربط بنتائج ملموسة، وتعزيز ثقافة تقدير الجهد الصامت وإبراز النماذج التي تصنع الفرق بعيدًا عن الأضواء، وإعادة التوازن بين العاطفة والمعيار في التكريم، بحيث لا يتحول التصفيق إلى حكم نهائي على الكفاءة، وتمكين الإعلام المؤسسي المهني من استعادة سردية الجدارة الحقيقية، وتجاوز منطق الرد الفعلي العاطفي، وضرورة استثمار النقد الجماهيري في تحسين السياسات لا في إنتاج صور تعويضية ظاهرها الدعم وباطنها الإنكار.

في النهاية، إن الحفاظ على هيبة التقدير يبدأ باستعادة هيبة القيم، فالتكريم ليس مجاملة لحظة، بل مسؤولية مؤسسة. والأمم لا تنهض بمن يُصفَّق لهم، بل بمن يعملون حين لا يراهم أحد.

... "وسلامٌ على من يعمل في صمت"

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق