في حوار أُجري معه عام 2018، انفتح زياد الرحباني كما يليق برجل في الـ63 من عمره، يحمل في داخله روح طفل في الرابعة عشرة، يتكلم بجرأة وحرية نادرتين، يعبّر عن رأيه في كل شيء: الفن، الموسيقى، الصحافة، الإعلام الجديد، الرؤساء، السياسات الإقليمية والدولية، العولمة، وحتى عن نفسه، وعن علاقته بوالديه، السيدة فيروز والسيد عاصي الرحباني، اللذين لم يكونا عاديين بأي شكل. بدا كتابا مفتوحا، يجيب على كل سؤال يُطرح عليه دون تردد أو مواربة، كأنه يقطع الطريق على أي تأويل أو سوء فهم قبل أن يبدأ. كان صريحًا إلى درجة تُربك، وربما إلى حد "قلة التهذيب" كما اعتادت أمه أن تصفه، بعبارتها الشهيرة: "بلا مربى".
ابن فيروز وليس ظلها
أن تولد لأبوين فنانين بقامتي فيروز وعاصي الرحباني، فذلك يعني أنك محكوم بالشبه وبالمقارنة، وربما بالامتثال لصورة نمطية معينة. لكن زياد، ومنذ أولى خطواته، قرر أن يكون شيئًا آخر. صحيح أنه كتب لفيروز ولحن لها ألحانا لا تُنسى مثل "عودك رنان"، و"بكتب اسمك يا حبيبي"، و"سألوني الناس" لكنه لم يقف عند حدود الابن الموهوب الذي يكتب لأمه. كان يرى في فيروز أيقونةً، لكنه لم يتردد في معاملتها كـ"مطربة"، تماما كما عرّفها ذات مرة في أحد لقاءاته: "عم بيغنّي مطربتي فيروز"، تعبير يبدو كأنه يرسم حدودا واضحة بين الشخصي والفني، ويؤكد أن فيروز جزء من حياته، لا كلّها.
علاقته بها لم تكن دائما سهلة. خيمت عليها خلافات. لكنها، رغم كل شيء، غنّت من كلماته، واحتفظت بصوته داخل صوتها، كما احتفظ هو بها كصوت لا يشبه شيئًا. يحكي زياد كيف تمكن من الهرب من سلطة البيت وهو بعد في الرابعة عشرة من عمره، كانت الخلافات بين فيروز وعاصي لا يمكن احتمالها، مناوشات يومية وعلاقة تشوبها غيرة الأب التي لا يمكن تحملها، كان يكفي أن يندمج أحد الحاضرين مع جملة غنائية تؤديها فيروز، وأن يعبّر عن إعجابه بعبارة مثل "الله الله"، لتتحوّل الليلة إلى كابوس مزعج لجارة القمر، رغم أنها لم ترتكب ذنبا.

تلك التوترات، التي خيمت على علاقة والديه، دفعت زياد المراهق إلى الهروب من بيت الرحابنة، الذي كان يعجّ بالمسرح والشعر والموسيقى، إلى بيت صديقه ورفيق مسيرته الفنية جوزيف صقر، قبل أن يُكمل الخامسة عشرة من عمره. وهناك بدأ في رسم ملامح طريق فني مختلف، لا يشبه البيت الذي خرج منه، ولا يشبه أحدا سوا.
إعلان
يكتب مسرحيات ويمثلها يكتب أغنيات ويلحنها وأحياناً يغنيها لو لم يغنها جوزيف صقر، حتى إن إحدى أغنيات فيروز الشهيرة لم تكن لها من الأصل "هدير البوسطة" كانت مكتوبة وغناها جوزيف صقر قبل أن تعجب عاصي الرحباني الذي أصر أن تغنيها السيدة فيروز وهو ما حدث بالفعل.
مثقف متمرد على الجميع
بعدما تمرد زياد على بيت نشأته في كنف عاصي وفيروز، ووسط خلافاتهم اليومية، تمكن من إيجاد صوته الخاص، صوت يتجلى في الموسيقى والكتابة والصحافة والمسرح، استهوته الأفكار الشيوعية فصار سياسيا شيوعيًا، أعلن زياد انتماءه إلى الحزب الشيوعي اللبناني في وقتٍ كان الانقسام الطائفي يأكل كل شيء. تمسّك بفكرة العدالة الاجتماعية، وعادى النظام الطائفي، وانتقد الجميع تقريبًا، من اليمين إلى اليسار، ومن المقاومة إلى اللامقاومة. حتى حلفاؤه لم يسلموا من نقده.
قد يبدو ذلك تناقضًا صارخًا، لكنه في الواقع جوهر شخصيته. فهو مثقف غاضب لا يُراهن على المثاليات، وواقعي لا يعترف بالحلول الوسط. عدوّ للنظام، لكنه في الوقت نفسه مرآة تعكس بصدق تناقضات الناس ومعاناتهم. "أبو الزوز"، كما يحب أن يناديه محبوه، لم يكن مجرد ابن لعاصي وفيروز، بل كان ابن الحرب، ابن الشارع، ابن الأسئلة التي لا تهدأ.
تفجرت مواهبه بالتزامن مع فترة حافلة بالأحداث في المنطقة بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص، حرب السنتين، أو بدايات الحرب الأهلية اللبنانية التي أثرت في كل أبناء جيله وحتى الأجيال الأكبر، فرّ من تمكّن من الهرب إلى خارج لبنان، لكنه ظل في الداخل، يتنقل بين أحيائها، يقدم برامجه عبر إذاعة "صوت الشعب"، ويؤدي مسرحياته التي وصل عددها 7، حيث لم يكن فقط ممثلا عابرا في مسرحه، بل معلّقا سياسيا، وفيلسوف شارع.
" frameborder="0">
نصوصه المسرحية حفلت بالنقد، من "نزل السرور" إلى "فيلم أميركي طويل" وأغنيتها الشهيرة "يا زمان الطائفية"، ومن "بالنسبة لبكرا شو؟" إلى "شي فاشل"، رسم صورة لبنانية مرّة، لكنها مضحكة. هذا الضحك الأسود كان، في الغالب، محاولة للبقاء والتنفس تحت وطأة حرب أهلية بين الطوائف. يجسدها شخصيات مألوفة: البائع، الموظف، المثقف الفاشل، المتدين المتعصّب، الزعيم الفاسد. الجميع يمرّ عبر غربال زياد، والجميع يُعرّى.
موسيقى تمزج بين أرواح العالم
رغم أن أول أعماله الموسيقية كملحن كانت "سألوني الناس" التي ألفها ولحنها وهو بعد في السابعة عشرة من عمره، بروح من الموسيقى الرحبانية، لكنه سرعان ما انفتح أكثر على موسيقات من أنحاء العالم؛ موسيقى تحمل أرواح شعوبها، الجاز والبلوز، والموسيقى الكلاسيكية الشرقية والغربية، سيد درويش وبيتهوفن، وواصل رحلته في المزج بينها على مدار عمره ما بين ألبومات موسيقية منفردة أو ألحان له ولغيره، لكن زياد لم يرَ في الموسيقى مجرد حرفة، بل كانت سلاحًا. كان البيانو بندقيته، والنغمة منشورًا سياسيًا. ففي أواخر السبعينيات، قدّم مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟"، التي بدت كأنها تلخيصٌ عبقري لفوضى الحرب الأهلية، ولعبث الطبقة السياسية، وانكسار الإنسان اللبناني. موسيقاه منفتحة بين عوالم الموسيقى وألوانها، تسخر من التصنيفات: مزيجٌ من الجاز، والمقامات الشرقية، والإيقاعات اللاتينية، والارتجال الأوبرالي، وكأنها تعكس شخصه القلِق، والرافض للثوابت.
إعلان
" frameborder="0">
هو أيضًا من القلائل والرواد الذين عربّوا الجاز و"شرّقوه" من دون أن يُفقدوه روحه. لم يكن مقلدًا، بل متمرّدًا في كل نغمة. يكفي أن تسمع افتتاحية "اسمع يا رضا" أو مقاطع من "العقل زينة" لتدرك أنك أمام موسيقي يرى العالم من زاوية مختلفة، ولكنها صادقة، صدق دفع البعض حين يسمع السيمفونية الرابعة لبيتهوفن لأن يتذكر على التو أغنية "يا أنا" للسيدة فيروز.
"شو هالجيل!" جيل الحرب
عرف اللبنانيون الحرب الأهلية ككابوس متواصل، أما زياد فعاشها كمادة خام لإعادة التفكير في كل شيء. دمّرته، لكنها غذّته وغذّت أفكاره السياسية. لم يغنّ للحرب ببطولية، بل بالسخرية والتشريح. صوته المتهكم في أغنية "أنا مش كافر" ليس تبريرا دينيا، بل اعتراف سياسي ونقد كامل لكافة الطوائف والمنتمين لها. الحرب عنده ليست جغرافيا ولا طوائف، بل لعبة مصالح تسحق الإنسان وهو وغيره تحت وطأتها، وهو ما شكّل فلسفته ورأيه في الحياة، ربما لم يكن زياد فيلسوفًا أكاديميًا، لكنه بالتأكيد شحن فنونه ومقالاته بأسئلة كبرى: عن الوجود، والحرية، والمعنى، والجنون. في مقابلاته كان كثير التهكم، يجيب بسؤال، أو بسخرية تشبه الحكمة. فـ"شو بدّك بالحكي؟" ليست فقط جملة عابرة، بل صيغة وجودية تختصر حالة شعب خائف من الكلام، ومن المعنى ويبحث عن المضمون والجدوى.
" frameborder="0">
حتى في عز مجده، كان زياد يجلس بين الناس، في المقاهي البيروتية، في الجميزة أو الحمرا، يتأمل الحياة، كأنه أحد شخصياته التي كتبها أو جسدها: منهك، ولكنه ما زال يراقب.
كان زياد الرحباني ظاهرة، لا تشبه أحدا. ابن فيروز الذي أحبّها بطريقته، وعادى العالم بطريقته، وابتكر موسيقاه كما يكتب الإنسان وصيته الأخيرة: صادقة، ناقصة، لكنها خالدة، زياد الرحباني كان أكثر من ملحن وكاتب ومسرحي، كان ظاهرة ثقافية وسياسية، صوتًا لا يهادن ولا يساوم، اختار الفن طريقا، والموسيقى منصة، والمسرح ميدانًا، لفعل نقدي يواجه الواقع بجرأة. رحل اليوم، لكن صوته باق حيا في أغنياته، على خشبة المسارح، وفي أروقة المقاهي اللبنانية، وفي ذاكرة كل لبناني وعربي وأحبه ووجد في أغنياته وإرثه شيئًا من نفسه.
0 تعليق