تحولت مدينة بريدور البوسنية من واحة للتعايش الحضاري بين الأديان والأعراق إلى مسرح مروع للتطهير العرقي والإبادة الجماعية خلال الحرب البوسنية في التسعينيات.
وشهدت هذه المدينة، التي كانت تجسد نموذجا مشرقا للتنوع الثقافي، حيث تتجاور المساجد والكنائس، تحولا جذريا عندما سيطرت القوات الصربية عليها في أبريل/نيسان عام 1992، وهذا أدى إلى إنشاء شبكة من معسكرات الاعتقال أشهرها معسكر أومارسكا سيئ الصيت.
وكانت الحياة في بريدور قبل الحرب تمثل نموذجا حيا للانسجام البوسني، حيث عاش المسلمون والصرب والكروات جنبا إلى جنب لعقود طويلة، يتشاركون الأفراح والأحزان ويتزاوجون فيما بينهم دون اعتبار للانتماءات الدينية أو العرقية.
ولكن تغير كل ذلك بشكل جذري عندما نفذت القوات الصربية انقلابا مسلحا أطاح بالسلطة المنتخبة، واستولت على المؤسسات الحيوية من شرطة ومحاكم وبنوك، وسيطرت على الإذاعة المحلية التي أصبحت بوقا للدعاية الصربية.
واستعرضت حلقة (2025/7/10) من سلسلة "أفلام الجزيرة" هذه المأساة الإنسانية من خلال شهادات مباشرة من الناجين والوثائق التاريخية التي تكشف الطبيعة المنهجية للجرائم المرتكبة.
وأوضحت الحلقة كيف تم تحويل منجم الحديد السابق في أومارسكا إلى معسكر اعتقال ضم آلاف المعتقلين من المسلمين والكروات، تحت إدارة قادة مثل ميلادو راديتش الملقب بـ"كراكان" وزوران جيجيتش، الذين أشرفوا على عمليات تعذيب وقتل منهجية.
وشكل معسكر أومارسكا نقطة تحول في الكشف عن حقيقة ما كان يجري في البوسنة، خاصة بعد زيارة الصحفيين الأجانب عام 1992.
وجاءت هذه الزيارة استجابة لتحدي زعيم صرب البوسنة رادوفان كراديتش، الذي نفى وجود معسكرات اعتقال ودعا المراسلين الأجانب لزيارة المناطق الصربية والتحقق بأنفسهم.
مشاهد صادمة
ولكن ما شاهده الصحفيون كان صادما، حيث رأوا مئات الرجال النحيلين في حال يرثى لها، يتناولون وجبة واحدة يوميا من حساء مائي مع قطعة خبز صغيرة.
وكشفت الشهادات المروعة للناجين عن طبيعة الحياة داخل المعسكر، إذ تم حشر 600 شخص في غرفة لا تتجاوز مساحتها 150 مترا مربعا، في ظروف لا إنسانية تفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة.
إعلان
وتعرض المعتقلون لعمليات تعذيب وحشية على يد الحراس، خاصة في مكان يسمى "البيت الأبيض" حيث كانت تتم عمليات الإعدام الجماعي تحت جنح الظلام.
ووصف الناجون كيف كان الحراس يختارون ضحاياهم بشكل عشوائي لممارسة أشكال مختلفة من التعذيب النفسي والجسدي.
واستهدفت عمليات الاعتقال والقتل بشكل خاص المثقفين والمتعلمين من أبناء المجتمع البوسني، في إطار إستراتيجية منهجية تهدف إلى تدمير النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع المسلم والكرواتي في المنطقة.
وشملت هذه الإستراتيجية أيضا تدمير المعالم الدينية والثقافية، وطرد السكان من منازلهم، وارتكاب جرائم اغتصاب جماعية ضد النساء.
وتمكن الصحفيون الأجانب من توثيق جزء من هذه الجرائم رغم القيود المشددة والحراسة المكثفة التي فرضتها السلطات الصربية على زيارتهم.
ولكن ما تم تصويره والكشف عنه كان مجرد قمة جبل الجليد مقارنة بحجم الفظائع الحقيقية التي ارتكبت، فقد كان المعسكر يتم تنظيفه وإخفاء الأدلة قبل وصول الوفود الإعلامية، كما تم نقل المعتقلين الأكثر تضررا إلى أماكن أخرى لإخفاء حقيقة أوضاعهم.
ردود أفعال
وتراوحت ردود أفعال المجتمع الدولي بين الصدمة والاستنكار، وأدى هذا في النهاية إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي.
كما تمت محاكمة عدد من المسؤولين عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية، لكن أحكام المحكمة لم ترق إلى مستوى توقعات الضحايا وذويهم.
وحصل زوران جيجيتش، المتهم بارتكاب أبشع الجرائم، على حكم بالسجن 27 عاما، بينما حصل آخرون على أحكام أخف بكثير مما تستحقه جرائمهم.
ولا يزال الناجون يواجهون تحديات نفسية واجتماعية معقدة، إذ يعيش كثير منهم في نفس المناطق التي تضم مرتكبي الجرائم ضدهم.
وتحكي إحدى الناجيات كيف اكتشفت أنها تقف في طابور شراء الزهور خلف الرجل الذي اغتصبها في المعتقل، بينما يصف ناج آخر لقاءه العرضي مع من قتل أصدقاءه وإخوانه.
ويسود الإنكار ونفي ما حدث في أوساط واسعة من المجتمع الصربي المحلي، حتى من قبل الأشخاص العاديين ناهيك عن أولئك الذين في السلطة.
ويرفض كثيرون الاعتراف بما شاهدوه أو علموا به، ويدعون عدم معرفتهم بأي شيء عما جرى، حتى لو كانوا يسكنون بالقرب من المقابر الجماعية أو معسكرات الاعتقال.
0 تعليق