تشكل قصة الزعيم السابق لصرب البوسنة رادوفان كراديتش إحدى أكثر القصص إثارة للجدل في تاريخ أوروبا المعاصر، إذ تحولت رحلته من شاعر متوسط الموهبة إلى قائد أكبر إبادة جماعية منذ الزعيم النازي أدولف هتلر.
ففي منتصف يوليو/تموز عام 1995، نفذت قوات صرب البوسنة تحت قيادته مذبحة سريبرينيتسا التي راح ضحيتها أكثر من 8 آلاف رجل وصبي مسلم، في عملية إعدام منظمة هزت ضمير العالم وأدت إلى مطاردة دولية امتدت لأكثر من عقد من الزمن.
وعاش كراديتش سنوات اختفائه الـ13 متخفيا في قلب بلغراد تحت هوية مزيفة كطبيب نفسي يُدعى دراجان دابيتش، قبل أن تنتهي هذه المغامرة المذهلة في حافلة عادية صباح 18 يوليو/تموز 2008.
واستعرضت حلقة (2025/7/10) من سلسلة "أفلام الجزيرة" تفاصيل هذه القصة المعقدة، مستعرضة رحلة تحول مضطربة من البداية المتواضعة في الجبل الأسود حتى النهاية في قفص الاتهام بمحكمة لاهاي، كاشفة عن الأساليب العبقرية التي استخدمها في تغيير شخصيته والتملص من أكبر عملية مطاردة في التاريخ الحديث.
وتكشف السيرة المبكرة لكراديتش عن شخصية تعاني من عقد نقص عميقة وسعي مرضي للاعتراف، فقد درس علم النفس في جامعة سراييفو، وهناك عشق الأدب وبدأ التأليف، لكن زملاءه الأطباء عرفوه كطبيب نفساني غير كفء، بينما اعتبر أدباء المدينة شعره دون المتوسط بكثير.
وكان دائما يفضل الحديث عن نفسه ويدعي العظمة ويقول إنه أحد أعظم الكتّاب في صربيا بدلا من أن يعمل على تحسين شعره، حسب شهادة معاصريه.
موجة القومية
وجرب كراديتش العمل التجاري عدة مرات من دون نجاح، بل إنه خاض غمار مجال البيئة لكنه لم يفلح أيضا، وبوصوله إلى منتصف العمر، لم يكن قد حقق أي إنجاز يُذكر في المجالات المتعددة التي جربها، وهذا خلق لديه إحساسا عميقا بالفشل والرغبة في إثبات الذات بأي ثمن.
وكان تفكك الكتلة الشيوعية في مطلع التسعينيات البوابة التي أتاحت له الفرصة الذهبية لإعادة اكتشاف نفسه كزعيم قومي متشدد.
ووجد كراديتش ضالته عندما انقسمت يوغوسلافيا على أسس طائفية، فركب موجة القومية الصربية المتصاعدة وأسس جمهورية صربسكا كإقليم يتمتع بالحكم الذاتي في البوسنة.
إعلان
وانتُخب كأول رئيس لها، رافضا الاعتراف بسلطة حكومة البوسنة والهرسك في سراييفو، وواضعا خطة مرعبة لـ"تطهير" المنطقة من المسلمين والكروات، وتبنى كراديتش إستراتيجية واضحة ووحشية: إخراج مسلمي البوسنة والكروات من المنطقة، وقتل أو اعتقال من يرفض الرحيل في معسكرات.
كما هدف إلى تحويل سراييفو إلى عاصمة لبوسنة صربية، بينما الطوائف الأخرى التي عاشت في المدينة على مدى قرون من الزمن، كان بالإمكان في رأيه أن يُقضى عليها.
وتحولت العاصمة البوسنية إلى رمز للمعاناة الإنسانية تحت الحصار الأطول في تاريخ الحروب الحديثة، من أبريل/نيسان 1992 إلى فبراير/شباط 1996، وعاش سكان سراييفو "حصار الثلاثة آلاف يوم"، إذ أقام صرب البوسنة مواقع في التلال المحيطة يقصفون المدينة منها، بينما تمركز القناصة في المباني وسط المدينة.
وشهدت شوارع المدينة، وخاصة "طريق القناصة" المشؤوم، مشاهد رعب يومية؛ إذ أصبح السير في الشارع محفوفا بالخطر لكونه عرضة لنيران القناصة، وتحول الحصول على الماء من المضخات العامة إلى مغامرة قاتلة، إذ كانت العودة بعد أخذ الماء أخطر من المجيء أصلا إلى المضخة.
مذبحة سريبرينيتسا
وعاش المدنيون في حالة رعب مستمر، إذ كان المرء يجازف بحياته في كل نفس يلتقطه وهو يترقب من أين سينطلق الانفجار التالي، وشكلت مذبحة سريبرينيتسا في يوليو/تموز 1995 نقطة التحول التي أدرك العالم عندها أن ثمة إبادة جماعية وأنه كانت تُرتكب جرائم حرب خطيرة.
ورغم إعلان المنطقة "ملاذا آمنا" تحت حماية قوات حفظ السلام الدولية، نفذ الجنرال راتكو ملاديتش، أكبر قائد عسكري لدى كراديتش، خطة ممنهجة لفصل الرجال عن النساء والأطفال ثم إعدامهم جماعيا.
وتتذكر إحدى الناجيات كيف تجمع آلاف من مسلمي المدينة في المصنع أملا في أن تحميهم المفرزة الهولندية من قوات حفظ السلام، ولكن الأمل تبدد بأمر من الجنرال ميلاديتش، وفُصل الرجال عن النساء والشيوخ وبدأت عمليات القتل.
ونجح كراديتش على مدى 13 عاما في التملص من أكبر عملية مطاردة دولية، محولا نفسه إلى شخص آخر تماما يُدعى الدكتور دراجان دابيتش، ولم تكن مجرد عملية تغيير اسم، بل عملية تنكر وصفت بأنها "عبقرية" وشملت تغيير المظهر واللهجة وطريقة المشي وحتى الشخصية بالكامل.
وعاش حياة عادية في بلغراد كمعالج نفسي يستخدم الطب البديل، وأصبح مواطنا يحترمه جيرانه ويبدون إعجابا به، وكان لطيفا مع الجميع، سواء كانوا صربا أم كرواتا أم مسلمين.
والمفارقة المذهلة أنه كان مختبئا في شقة تقابل شقة تسكنها امرأة كانت تعمل لدى الإنتربول، والتي كانت كلما فتحت الباب صباحا تحيي جارها الدكتور دراجان دابيتش، الذي كان في الواقع رادوفان كراديتش.
وانتهت رحلة الهروب الطويلة بسبب خطأ بسيط: مكالمة هاتفية من رقم جوال قديم لكراديتش، اقتفت دوائر الاستخبارات أثر هذا الخطأ، وعلى مدى شهر كامل تمت مراقبة الدكتور دابيتش حتى تأكدت الشرطة من هويته الحقيقية.
وفي صباح 18 يوليو/تموز 2008، استوقفت حافلة في ضواحي المدينة ثم صعد إليها رجال الأمن وطلبوا من الدكتور دابيتش أن يأتي معهم، لتنتهي بذلك إحدى أطول عمليات المطاردة في التاريخ الحديث.
إعلان
ورغم محاكمة كراديتش في لاهاي، لا تزال البوسنة تعاني من تبعات مشروعه التقسيمي، ففي مدينة موستار، لا يزال النهر يقسم المدينة إلى شطرين، يسود الكروات في أحدهما بينما يسود المسلمون في الآخر.
0 تعليق