“لا يمكن لأي متابع للمشهد السياسي العربي خلال العقدين الماضيين أن يفصله بحال من الأحوال عن مشهد الفتنة الكبرى، التي وقعت قبل أكثر من 1400 عام في زمن الخلافة، ولا تزال آثارها، بل ومظاهرها، ممتدة حتى الألفية الميلادية الثالثة”.
وفي هذا الصدد قال الكاتب الروائي تامر شيخون" عشقت قراءة التاريخ منذ نعومة أظافري، لكن النظام التعليمي ساعتها لم يرحب بهذا العشق، إذ كانت مناهج التاريخ تُدرَّس بأسلوب أبوي تلقيني يفرض عليك الاستنتاجات الموجزة ويكدس في ذاكرتك تواريخ المعارك ونتائجها ثم يسألك في اختبار نهاية العام التعليل وملء الفراغات.
وأوضح في تصريحات خاصة لـ"الدستور": لطمتني الصدمة الأولى في انعزال التاريخ المدرسي عن فضاءات التاريخ الإنساني الرحبة، فقدت ثقتي فيما تصُبّه المدارس في أمخاخنا تحت مسمى التاريخ ورحت أبحث عنه في المكتبات والجرائد وأحاديث والدي.
تابوه الفتنة الكبري
وتابع: كبرت قليلا حتى أصبح التابوه التالي هو الفتنة الكبرى. ذلك الفصل المقتضب الغامض من تاريخ صدر الإسلام، تمر عليه المناهج مرور الكرام مثل سوء تفاهم عابر بين الصحابة حدث في أواخر عهد عثمان بن عفان، وكلما دفعنا الفضول للتساؤل عن تفاصيل أو أسباب تلك الفتنة، رفع الأساتذة في وجوهنا العبارة المنسوبة للخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (الملقب ضمنا بخامس الخلفاء الراشدين) "تلك فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا"
وأضاف: أول الكتب التي هدمت رواسِخ فهمي عن تاريخ المسلمين الأوائل أو القرن الهجري الأول هو كتاب الخلافة الإسلامية لمحمد سعيد العشماوي. تَلَتهُ كتبٌ عدة مثل الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبدالرازق أو الفتنة الكبرى لطه حسين.
ولفت “شيخون” إلي: حتى تفتحت أفاقي على باب واسع من البحث والتدبر بعدما باتت البديهيات المؤسِسِة أكثر وضوحا: أن الإسلام الدين المطلق السمح، لآ يُعرَّف بما يصنعه أو صنعه المسلمون الأوائل. مهما علا شأنهم وعظم دورهم في نشر الدعوة، هم بشر، يخطئون ويطمعون ويتقاتلون. التاريخ لا يعني العقيدة. التاريخ هو ذاكرة البشرية. أما الدين فهو كلمة الله على الأرض، مشيرًا إلى أن الموضوعية في فهم دروس التاريخ وليس السيرة النبوية تحتم تجريد الأشخاص من قدسيتهم، ومقارنة المصادر المتباينة مع إعمال العقل وطرح الأسئلة المنطقية بغض النظر عن قواعد النقل والإسناد المعمول فيها في علوم الحديث والفقه. وليس المقصود هنا تجاهل تلك القواعد، لكن المقصود ألا يتوقف سلسال الأسئلة المنطقية عند سرد الحدث وتأويله على نحوٍ ما لمجرد أن فلان قال كذا، عن فلان عن فلان.
لا يمكن تناول الفتنة الكبري من باب الخلاف الفقهي
وأشار إلى أن المجتمع المسلم، مثله مثل كل المجتمعات الأخرى الوليدة التي نشأت، كنتاج لثورة اجتماعية فكرية، أشعل شراراتها حدث جلل مثل انتشار الدعوة الإسلامية، كان لابد له أن يمر بكافة مراحل التطور الاجتماعي والسياسي من القبلية إلى الدولة أو الامبراطورية بمفاهيم ذلك العصر وما يترتب على ذلك من تغيير أنماط الحكم خصوصا حين تشمل الدعوة شعوبا أخرى ذات خلفيات ثقافية وحضارية متباينة،لافتًا إلى أن تلك عملية دامية عاصفة ذات سمت تاريخي متكرر. قس على ذلك مثلا تطور المجتمعات المسيحية أو السلافية أو التركية من القبلية إلى الإمبراطورية، كلٌ في عهدِه وسياقِه، لذا لا يمكن تناول الفتنة من باب الخلاف الفقهي في معزل عن المنظور السياسي والتاريخي الذي يؤكد أن تحول المسلمين من الخلافة إلى الدولة أو الامبراطورية كان حتما سيستتبعه صراعات عسكرية دامية، تغذيها اسنادات دينية أحيانا وقبلية أحيانا أخرى. لكن تظل السلطة في قلبها، المُحَفِّز الأقوى للصراع شرعية الخلافة.
وأضاف: الآن وقد تخطى المسلمون المليار ومائتي نسمة ولم يعد الإسلام قرين القبائل العربية في شبه الجزيرة وتغيرت آليات السياسة الدولية بعد زوال عهد الإمبراطوريات (وإن لم تتغير قواعدها) أصبح لزاما على العقلاء والمفكرين إعادة قراءة تاريخهم بموضوعية ومناقشته بحيادية بعيدا عن المذاهب والعقائد وليّ الحقائق أو تأويلها من أجل الحفاظ على صور ذهنية عن شخوص بعينها أو مفاهيم يحسب معتنقوها أنها شرعية، ليصبح الاختلاف في تفسير الأحداث، هو اختلاف صحي في محاولة فهم التاريخ حمّال الأوجه وليس اختلافا عقائديا يستدعي التكفير، أما إذا التزمنا تقديس الشخوص وتنزيههم وإقران صحيح الدين بأفعال ونوايا البشر حتى لو كانوا المسلمين الأوائل، فذلك يعني ببساطة أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين، دون تخطى فتنة القرن السابع الميلادي. بل أننا ضحايا فتنة أجددانا والسلف الصالح والسلف المتقاتل حتى أمست فتنَتَهُم... فِتنَتَنا.
0 تعليق