بكالوريا محمد عبد اللطيف: محاولة جديدة للعدالة الاجتماعية - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم يكن مساء السابع من يوليو 2025 في قاعة مجلس النواب مجرد محطة تشريعية عادية، بل أقرب ما يكون إلى محاولة جريئة لإعادة تعريف التعليم الثانوي في مصر، حين صعد وزير التربية والتعليم الدكتور محمد عبد اللطيف، إلى المنصة، ليعلن ما أسماه بـ«خطوة فارقة في تاريخ التعليم المصري». 

لم يكن اختيار العبارة اعتباطيًا، فقد حملت كلماته بذور تصور بديل لشهادة الثانوية العامة، عرف باسم "البكالوريا المصرية"، يُراد له أن يتحول من تجربة إلى فلسفة، ومن إصلاح قطاعي إلى مشروع مجتمعي.

يحاول المشروع الجديد الذي حمل عنوان «البكالوريا المصرية» أن يعيد كتابة العلاقة بين الطالب وزمنه، بين الأسرة ورهاناتها، بين المدرسة ودورها، وبين الدولة ومسؤوليتها. 

بكالوريا تدوم ثلاث سنوات، بديل اختياري، مجاني بالكامل، يوازي قانونًا الثانوية العامة، لكنه لا يشبهها في شيء. شهادة لا تُبنى على إجابة واحدة بل على مسار طويل، لا تُختَزل في لجنة امتحانية، بل تتكون من حصص دراسية ومهارات حقيقية وقرارات شخصية.

منذ أن تولى د. محمد عبد اللطيف الوزارة في 3 يوليو 2024، بدا أنه ليس رجل “التهدئة البيروقراطية” بل “المخاطرة المحسوبة”. أكاديميًا، يحمل شهادة الدكتوراه في التربية من جامعة كارديف سيتي، وماجستيرًا في تطوير التعليم من جامعة لورانس. عمليًا، خبر النظامين الحكومي والخاص، قاد مشاريع تعليمية في الداخل والخارج، وله دراية نادرة في ملف الشهادات الأجنبية والمعادلات والاعتمادات الدولية. وجاءت فكرته بتقديم نظام نعليمي "يُمكّن الطالب من تقرير مصيره... بدلًا من أن يتحكم فيه مكتب التنسيق" ترجمة لفكرة أن السلطة الحقيقية لا ينبغي أن تكون للمجموع، بل للمنهج. لا للامتحان، بل للفهم.

تحت قبة المجلس، حيث خضعت تعديلات قانون التعليم للنقاش، بدا واضحًا أن البرلمان مستعد أخيرًا للقبول بأن الثانوية العامة بصيغتها الحالية عبء لا بد من تجاوزه. 

النظام الجديد لم يطالب بالتخلي عن النظام القائم، لكنه يُغري بالتفكير خارج ثنائية "العلمي - الأدبي"، ويفتح أمام الطالب مسارات أربعة تتقاطع مع ميوله لا مع توقعات أسرته: الطب وعلوم الحياة، الهندسة والحاسبات، الأعمال والتجارة، الآداب والفنون. يبدأ التخصص من الصف الثاني، ومعه تتشكل هوية معرفية أعمق مع حرية التحويل بين المسارات بمادتين فقط.

الأهم من كل ذلك أن الشهادة تُبنى على امتحانات متعددة، بدورتين سنويتين لكل مادة، مع إتاحة إعادة المحاولة مجانًا في أول مرة. لا ترهيب، بل تصحيح. 

لا يُطرد الطالب من أحلامه بسبب خطأ مؤقت أو وعكة عابرة. وقد عبّر الوزير عن هذا صراحة بقوله: "البكالوريا المصرية تمنح الطالب أكثر من فرصة، وتقلل التوتر، وتعزز العدالة".

وفي محاولة لتثبيت القيم في قلب النظام، تحولت التربية الدينية من مادة للديكور التربوي إلى إحدى أركان النجاح، بشرط اجتياز 70% من درجاتها، دون أن تُحسب ضمن المجموع. 

قالها الوزير بمنتهى الوضوح: "لا نريد أن نغرس في طلابنا أن الدين مادة هامشية"، كأنه بذلك يعيد الاعتبار لا لمقرر دراسي، بل لفكرة الهوية ذاتها.

فيما يتعلق بالبنية التحتية، أعلنت الوزارة أن أكثر من 90% من المدارس الثانوية باتت مؤهلة من حيث التجهيزات التقنية: معامل حاسوب، شبكات إنترنت عالية السرعة، كاميرات مراقبة، وطابعات حديثة. بل أشار الوزير إلى أن بعض المدارس الحكومية، في هذه المرحلة، باتت تتفوق تجهيزًا على نظيراتها الخاصة.

كما أعدت الوزارة بقيادة محمد عبد اللطيف جداول لتدريب المعلمين، وتم تكليف معلم متخصص بكل فصل، مع ضمان تغطية جميع المواد الأساسية والتخصصية. 

وأوضح الوزير أن التحول الكبير لم يكن في الأجهزة بل في انتظام الطلاب، وهو ما تحقق تدريجيًا خلال العامين الماضيين، إذ عاد طلاب الصف الأول والثاني للحضور المنتظم في المدارس، بعد سنوات من الغياب شبه الكامل.

ولأن التعليم لا يكتمل دون مخرجاته، لم تغب إشارة الوزير إلى التعليم الفني، الذي طالما تم إهماله، وتهميشه. فأكثر من مئة مدرسة تكنولوجيا تطبيقية دخلت الخدمة، بالشراكة مع دول كألمانيا واليابان. 

الهدف ليس أن نجعل الطالب فنيًا فحسب، بل أن نجعله مؤهلًا بما يكفي ليكون شريكًا في اقتصاد المستقبل، لا هامشًا فيه، وهو أم مهم لأي خطة تنمية وطنية، فليس كل طالب حلمه أن يدخل كلية الطب، بعضهم ينجح في مصنع، في مختبر، في مشروع ناشئ”.

لكن الوزير، بكل ما حمله من جرأة في الطرح، لم يطالب بفرض النموذج الجديد، بل ترك الباب مفتوحًا للتدرج والاختيار. وهنا، لاقى مداخلات نيابية رحّبت، لكن بشيء من التحفظ الحكيم. 

إذ أشار النائب أيمن أبو العلا إلى أن «النظام الجديد متوازن وجيد»، لكنه دعا إلى تقييم التجربة قبل التعميم. وبين الحماسة والحذر، بدا أن البرلمان ذاته يعيد تشكيل موقفه من التعليم، لا من التشريع فقط.

إن ما كُشف عنه في السابع من يوليو، ليس حلًا نهائيًا لأزمة التعليم، لكنه، لأول مرة، مشروع يحمل اعترافًا أن النظام القديم لم يكن قابلًا للاستمرار.

الاعتراف لا يُعلن دائمًا في صيغة نقد مباشر، بل أحيانًا في مجرد طرح بديل. ولعل أقوى جملة قالها الوزير في تلك الجلسة لم تكن عن الهيكل أو الامتحان، بل حين أكد أن الهدف هو أن نكون أمام نظام تعليمي يساعد الطالب على الوصول لما يحلم به، لا أن يكون عقبة أمامه.

في لحظة وطنية كهذه، لا يُطلب من القارئ أن يصفّق، بل أن يُفكر.

هل نحن أمام بداية مسار قابل للتطبيق؟ أم أمام مقترح طموح سيُجهضه تقليد ثقيل؟

هل ستستوعب العقول -قبل المدارس- أن العدالة في التعليم ليست في مساواة الجميع في الامتحان، بل في منح كل طالب مايحتاجه لينمو؟

هل نحن مستعدون أن نتخلى عن ثقافة "المجموع" لصالح ثقافة "الوجهة"؟

الرهان لم يعد على ما ستفعله الوزارة، بل على ما سيفعله المجتمع بهذه الفكرة.
فإما أن نحتضنها كتجربة تنقذ أبناءنا من استبداد الحفظ والورقة والقلم،أو نتركها تسقط كما سقطت قبلها كثير من المحاولات، لأننا لا نملك شجاعة الاعتراف بأن التعليم، لا يكفي أن يكون موجودًا… بل يجب أن يكون عادلًا، مرنًا، وإنسانيًا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق