طرابلس- في مشهد يعكس عمق أزمة حقوق الإنسان في ليبيا، توفي المواطن عبد المنعم رجب المريمي مساء الجمعة الماضية متأثرًا بجراحه، بعد أيام من اعتقاله على يد جهاز الأمن الداخلي ونقله إلى مقر النيابة العامة في طرابلس.
والواقعة، التي وُصفت بالصادمة داخليا ودوليا، أعادت تسليط الضوء على أوضاع مراكز الاحتجاز بليبيا، وسط تساؤلات متصاعدة عن ملابسات ما جرى، في ظل اتهامات موجهة إلى أجهزة أمنية يُشتبه بممارستها انتهاكات ممنهجة دون مساءلة حقيقية.
ولطالما اتهمت المنظمات الحقوقية المحلية والدولية جهاز الأمن الداخلي بتنفيذ اعتقالات تعسفية، واحتجاز أشخاص خارج إطار القانون، وارتكاب انتهاكات جسيمة داخل مقراته، خاصة في طرابلس ومصراتة.
" frameborder="0">
اتهامات بالجملة
في عدة تقارير حديثة، وثّقت منظمة العفو الدولية قيام الجهاز بـ"اعتقال مئات الأشخاص دون أوامر قضائية، واحتجازهم بمعزل عن العالم الخارجي" في مراكز يُعتقد أنها سرية أو غير رسمية، ودون السماح لهم، غالبا، بالتواصل مع محامين أو ذويهم.
من جهتها، أشارت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة إلى أن الجهاز "ضالع بانتهاكات خطِرة شملت التعذيب، والضرب، والحرمان من الرعاية الصحية"، لافتة إلى توثيق حالات وفاة أثناء الحجز، بعضها بسبب التعذيب المباشر وأخرى من الإهمال الطبي.
أما منظمة هيومن رايتس ووتش، فاتهمت الأمن الداخلي باستهداف الصحفيين والنشطاء المدنيين، باستدعاءات واعتقالات تعسفية بتهم فضفاضة مثل "نشر أخبار كاذبة" أو "تهديد الأمن القومي"، مضيفة أن بعض الموقوفين "أُجبروا على الإدلاء باعترافات تحت الضغط، ثم نُشرت في وسائل الإعلام الرسمية".
ورغم تكرار تلك الوقائع، فإن الجهاز لا يزال –وفق تقارير كل من المنظمة الليبية لحقوق الإنسان ومرصد حقوق الإنسان الليبي– يعمل بصلاحيات واسعة وغير محددة، بعيدًا عن أي رقابة قضائية أو برلمانية فعلية.

اختطاف وليس اعتقالا
وعمّا جرى مع المريمي، أصدرت عائلته في 30 يونيو/حزيران الماضي، بيانًا أكدت فيه أن ابنها اختُطف على يد مسلحين مجهولين أثناء وجوده مع أطفاله في مدينة صرمان جنوبي العاصمة، في ظروف وصفتها بـ"المرعبة والمباغتة".
إعلان
ولاحقًا، أعلن جهاز الأمن الداخلي أن المريمي تم استدعاؤه بناءً على "تحريات جدية"، وخضع لجلسات تحقيق رسمية أواخر الشهر الماضي، مؤكدًا التزامه بـ"الإجراءات القانونية والكرامة الإنسانية".
إلا أن غموض التوقيت، وعدم الإفصاح عن طبيعة التحريات، والطابع السري للجهاز، جعل من هذه الرواية محل تشكيك واسع، لا سيما مع تسجيل اتهامات سابقة للجهاز بانتهاكات موثقة بحق معتقلين.
وفي تصريح خاص للجزيرة نت، قال الناشط الحقوقي جمال الفلاح، إن "ما جرى للناشط عبد المنعم المريمي، شكّل صدمة للرأي العام الليبي". وأضاف "كان اعتقاله أقرب لعملية خطف وإخفاء قسري، دون الكشف عن مصيره، ما يُعد مخالفة قانونية وانتهاكا لحقوقه الأساسية، وندين بشدة هذا السلوك من أجهزة رسمية في الدولة".
وعن واقعة وفاته، أوضح الفلاح أنهم جميعا اعتقدوا بدايةً أنها "عملية قتل" داخل جهاز الأمن الداخلي، لكن مقطع الفيديو الذي نشره مكتب النائب العام، أظهر المريمي داخل مبنى النيابة العامة وهو "بحالة تبدو جيدة، دون آثار تعذيب ظاهرة".
وأشار إلى أن قرار القفز من الطابق العلوي الذي اتخذه المريمي، "يبدو قرارا فرديا غامضا، لا يمكن تفسيره دون وجود تحقيقات نزيهة وشفافة"، مطالبا بضرورة توضيح الملابسات الكاملة لما حدث، بدءًا من لحظة القبض عليه.
غياب المساءلة
وأكد الفلاح على مسؤولية الجهات الرسمية عن الطريقة التي اعتقل بها المريمي، وحرمانه من ضمانات المحاكمة العادلة، وعلى رأسها الحق بتوكيل محامٍ، والاطلاع على أسباب توقيفه، مشددا على أن "ثقافة الإفلات من العقاب لا تزال هي السائدة في ليبيا".
واعتبر أن ما حدث "جزء من منظومة أوسع لانتهاكات ممنهجة"، قائلًا إن "الاعتقال خارج إطار القانون، والإخفاء القسري، أصبحا أسلوبًا متكررًا في ليبيا، خلافا لما تزعمه السلطات أمام المجتمع الدولي من احترام لحقوق الإنسان".
وانتقد الناشط الحقوقي ضعف المجتمع المدني في لعب دوره، وأنه بدلا من أن يكون خط الدفاع الأول عن حقوق الإنسان، يعاني اليوم من التراجع والانقسام، وغياب الحماية القانونية، بسبب سياسات التضييق من الحكومات المتعاقبة.
وشدد على احترام الجهات الضابطة لحقوق الإنسان، والقضايا التي لا تسقط بالتقادم. "وإن عجز القضاء المحلي عن الفصل فيها، فهناك قضاء دولي قادر على ذلك".
وأضاف "حقوق الإنسان لا تتجزأ، ولا ترتبط بتوجهات الأشخاص أو خلفياتهم، والدفاع عن المريمي أو غيره لا يعني الاتفاق مع مواقفهم السياسية، بل هو دفاع عن قيم إنسانية أساسية".
واختتم الفلاح محمّلا المسؤولية الكاملة لـ"السلطات التشريعية وسلطات الأمر الواقع" معتبرا أنهم "جزء أساسي من هذه الانتهاكات، سواء بالصمت أو التواطؤ أو الدعم الضمني".
وفي 3 يوليو/تموز الجاري، أعلن مكتب النائب العام تسلمه أوراق التحقيق من جهاز الأمن الداخلي، مؤكدًا أنه استجوب المريمي، ثم أصدر قرارا بالإفراج عنه.
وبحسب البيان، جلس المريمي في صالة الانتظار ثم توجّه إلى دورة المياه، ليعود ويقفز من أحد الطوابق العلوية داخل المبنى "دون سبب واضح".
إعلان
ويوم أمس الأحد، 6 يوليو/تموز، نشرت النيابة مقطعا مصورا يوثق لحظة السقوط، في محاولة لنفي أي شبهة جنائية داخل مقرها.
مطالب بالتحقيق
لكنّ حقوقيين ومراقبين يعتبرون أن "عرض النيابة" لا يعفي الدولة من مسؤولية ما سبق لحظة الوفاة، خاصة ظروف الاعتقال والنقل.
وشهدت مدن طرابلس والزاوية وتاجوراء مظاهرات غاضبة، رُفعت خلالها شعارات تُحمّل الحكومة والأجهزة الأمنية المسؤولية المباشرة عن الحادثة.
وبينما وصف المجلس الاجتماعي في سوق الجمعة الواقعة بأنها "إرهاب ممنهج ضد الأصوات الحرة"، مطالبًا بمحاسبة المتورطين، دعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى "تحقيق شفاف"، كما طالبت المنظمة الليبية لحقوق الإنسان بالكشف عن كل مراحل الاعتقال وعن التسجيلات الكاملة داخل النيابة العامة.
وتأتي وفاة عبد المنعم المريمي في وقت تكثّف فيه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ضغوطهما على السلطات الليبية لتحسين سجلها الحقوقي، لا سيما مع تصاعد التقارير عن التعذيب داخل السجون، وغياب المحاسبة الجدية.
0 تعليق