في عالمٍ تغمره الصور والبيانات والبلاغات اليومية، نادرةٌ هي اللحظات التي تُصبح فيها الكارثة أوضح من أن تُخفى، وأقسى من أن تُتحمّل.
غزة، اليوم، لا تُحتَضر فقط تحت القصف، بل تختنق جوعًا. أطفالٌ يموتون في أحضان أمهاتهم، شيوخٌ يقتاتون على العشب، وعائلاتٌ تنتظر قوافل الإغاثة التي لا تصل. بل إن مئات الفلسطينيين قُتلوا وهم يقفون في طوابير انتظار المساعدات، برصاص من يُفترض به أنه وجد لمساعدتهم لا أن يُجهز على ما تبقى من أمل.
أمام هذا المشهد الفاجع، يبرز سؤال مُلّح: لماذا لم تُعلن الأمم المتحدة حتى الآن أن ما يجري هو "مجاعة"؟
ليس السؤال لغويًا، ولا عاطفيًا، بل هو قانوني وإنساني في جوهره. إعلان المجاعة ليس مجرد وصفٍ مأساوي، بل أداة إنذار قصوى تُلزم المجتمع الدولي بالتحرّك. لكن حتى هذه اللحظة، ورغم تراكم الشهادات والتقارير والصور، لا تزال الأمم المتحدة تلتزم الصمت الرسمي حيال التوصيف الأخطر.
هذا المقال يتناول حيثيات هذا التردد. نفكّك فيه المعايير الفنية التي تعتمدها المنظمة لإعلان المجاعة، ونستعرض الشهادات الميدانية الصادمة، ونحلل الأبعاد السياسية والقانونية التي قد تُفسر هذا الصمت. وأهم من ذلك، نحاول الإجابة: هل الأمم المتحدة عاجزة عن الإعلان؟ أم إنها، في لحظة الحقيقة، اختارت الحياد و"المهنية" على حساب الحياة؟
المعايير الفنية والإجرائية لإعلان المجاعة
لفهم عدم إعلان الأمم المتحدة حتى الآن عن حالة المجاعة في غزة، يجب إدراك المعايير الفنية والإجراءات التي تعتمدها لتصنيف الأزمات الغذائية.
طورت منظمة الأغذية والزراعة الأممية (FAO) 2004، ما يُعرف بنظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، "Integrated Food Security Phase Classification (IPC)" وهو إطار تحليلي معتمد دوليًا يُستخدم لتحديد درجة انعدام الأمن الغذائي بناءً على مؤشرات كمية ونوعية موحدة. يتكون النظام من خمس مراحل، تبدأ من المرحلة الأولى (وضع طبيعي) وتنتهي بالمرحلة الخامسة التي تُصنَّف كمجاعة وفق المعايير الثلاثة:
إعلان
- انعدام غذائي حاد لدى ما لا يقل عن 20% من الأسر: بمعنى أن خُمس الأسر أو أكثر تعاني عجزًا بالغًا في الغذاء، ولا تجد ما يكفي لسد رمقها، مع عجز تام عن التأقلم.
- سوء تغذية حاد يصيب أكثر من 30% من الأطفال دون سن الخامسة: أي أن أكثر من ثلث الأطفال الصغار يعانون من الهزال أو سوء التغذية الحاد نتيجة نقص الغذاء.
- معدل وفيات مرتفع بسبب الجوع: أي تسجيل ما يزيد عن حالتي وفاة يوميًا لكل 10 آلاف شخص نتيجة المجاعة، أو بسبب التداخل بين سوء التغذية والأمراض.
عندما تُستوفى جميع هذه المعايير الثلاثة معًا في منطقة معينة، يصنّف الوضع على أنه مجاعة (IPC) من المستوى الخامس. هذا التصنيف يعتمد على جمع بيانات دقيقة تشمل مسوحًا ميدانية لنمط استهلاك الأسر، ونسب سوء التغذية عبر الفحوص الطبية للأطفال، ومعدلات الوفيات في المستشفيات والمراكز الصحية.
تشارك وكالات أممية كبرنامج الغذاء العالمي (WFP)، ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، إلى جانب منظمات الإغاثة في جمع هذه البيانات، وتحليلها ضمن فرق عمل متعددة التخصصات.
وفي العادة، تُتخذ قرارات التصنيف بشكل توافقي بين الخبراء والجهات المعنية عبر ما يُعرف بـ"الإجماع التقني متعدد الأطراف"؛ حيث تُناقش النتائج ضمن مجموعات عمل تضم وكالات الأمم المتحدة والسلطات المحلية (عند وجود حكومة معنية)، ثم تُرفع التوصية النهائية لإقرار التصنيف رسميًا.
في بعض الحالات، تتشكل لجنة مراجعة مستقلة لضمان دقة التصنيف، كما حدث في حالة غزة؛ حيث أُنشئت لجنة مراجعة المجاعة لتقييم الوضع في ظل شُح البيانات.
لكن إعلان المجاعة ليس قرارًا تقنيًا بسيطًا، بل تصطدم به عقبات منهجية، خصوصًا في مناطق النزاع. ففي غزة، يعزى تأخر الإعلان إلى نقص البيانات الميدانية الموثوقة، نتيجة الحصار والظروف الأمنية التي منعت الصحفيين وعمال الإغاثة من الوصول إلى المناطق المنكوبة.
كما أدى انهيار النظام الصحي، وانقطاع الاتصالات إلى غياب التوثيق لحالات الوفاة المرتبطة بالجوع، إذ إن كثيرًا من الضحايا فارقوا الحياة خارج المستشفيات، بعيدًا عن أعين الإحصاءات.
هذه الفجوات تجعل استيفاء معايير المجاعة أمرًا معقدًا من الناحية الشكلية، رغم أن الصور والروايات من الميدان تروي مأساة لا لبس فيها. وكما قال أحد عمال الإغاثة: "في شمال غزة، الناس لا يموتون في المستشفيات، بل خارجها… دون أن يراهم أحد".
يُذكر أيضًا أن إعلان المجاعة على المستوى الدولي خطوة نادرة وشديدة التحفظ، إذ لا يُلجأ إليها إلا في حالات استثنائية للغاية، وبعد تحقق معايير صارمة يصعب استيفاؤها بالكامل، خاصة في ظروف النزاع، ما يجعل الجهات الأممية تتوخى حذرًا شديدًا قبل إطلاق الوصف رسميًا.
فلم تُعلن المجاعة إلا مرتين في السنوات الأربع عشرة الأخيرة (في الصومال2011، وجنوب السودان 2017)، مما يعكس مدى صرامة الشروط، وضرورة تحقق الأدلة الدامغة. ورغم أن إعلان "حالة المجاعة" لا يرتب تلقائيًا التزامات قانونية جديدة أو معاهدات ملزمة، فإنه يحمل وزنًا سياسيًا وأخلاقيًا كبيرًا باعتباره نداءً عاجلًا لتحريك المجتمع الدولي.
إعلان
هذا النداء قد ينعكس في زيادة المساعدات، وحشد الجهود الدبلوماسية للضغط على إسرائيل. ومع ذلك، فإن الحرص على المصداقية العلمية جعل الأمم المتحدة تتجنب استخدام مصطلح "مجاعة" في غزة، ما لم تصلها بيانات تفي بالمعايير المتعارف عليها.
يتضح، إذن، ظاهريًا، أن السبب الفني الرئيسي للتردد الأممي هو غياب البيانات الموثقة الكافية- نتيجة الحصار والقتال- لإثبات المجاعة وفق معايير IPC الصارمة. وفي المقابل، يرى منتقدون أن الاعتبارات الإنسانية يجب أن تطغى على الاعتبارات التقنية الجامدة عندما تكون الأدلة الواقعية واضحة للعيان.
هذا التناقض غير المبرر بين النهج الفني البحت والواقع الميداني المؤلم يكمن في صميم التساؤل حول تأخر إعلان المجاعة.
كما لا يمكن إغفال احتمال وجود اعتبارات سياسية ضمنية تكبح صدور إعلان من هذا النوع. فالأمم المتحدة، رغم طبيعتها القانونية والإنسانية، ليست بمنأى عن التوازنات السياسية والضغوط الدولية. وقد أظهرت التجارب السابقة أن قرارات مجلس الأمن، أو إحالات المحكمة الجنائية الدولية، أو حتى بعض تقارير الأمم المتحدة ذاتها، كانت عرضة للمساومة أو التعطيل تحت وطأة صفقات سياسية أو ضغوط من الدول النافذة.
وهو ما يثير مخاوف جدية من أن يكون تردّد المنظمة في إعلان المجاعة في غزة، ليس فقط نتيجة غياب البيانات الفنية، بل أيضًا نتيجة رغبة في تجنب الاصطدام بمنظومة المصالح الدولية، وفي مقدمتها إسرائيل وحلفاؤها.
شهادات وتقارير المنظمات الإنسانية حول أزمة الجوع في غزة
مع تفاقم الوضع الإنساني في غزة، توالت تقارير من وكالات الأمم المتحدة ومنظمات دولية، تؤكد وصول الجوع وسوء التغذية إلى مستويات حرجة، وتزيد الضغط على الأمم المتحدة؛ لإعلان المجاعة هذه بعضها:
- وكالة الأونروا (UNRWA) حذّرت مرارًا من انهيار الأوضاع الغذائية، وأكدت، 20 يوليو/ تموز 2025، أن أكثر من مليون طفل مهددون بالمجاعة. ووصفت ما يجري بأنه "مجزرة صامتة"، بعد تسجيل 86 وفاة بسبب الجوع منذ بداية الحرب، 76 منهم أطفال.
كما أشارت إلى منع إدخال المساعدات واستهداف مراكز التوزيع، معتبرةً هذه الممارسات شكلًا من العقاب الجماعي الذي قد يرقى إلى جريمة حرب.
- منظمة يونيسيف: (UNICEF) وصفت الوضع بـ"كارثة من صنع الإنسان"، وحذّرت في 22 يوليو/ تموز أن "الجوع منتشر والناس يموتون". سجلت مستويات كارثية من سوء التغذية بين الأطفال، مع انعدام الأمن الغذائي وشحّ المياه النظيفة. وجّهت نداءً مباشرًا: "كفى كفى. يجب إيصال المساعدات لكل العائلات فورًا".
- برنامج الأغذية العالمي (WFP): أعلن في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 وجود "خطر وشيك" للمجاعة، وفي مارس/ آذار 2024، أشار تقييم التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) إلى أن شمال غزة ربما تجاوز بالفعل عتبة المجاعة.
وأكد البرنامج أن 48% من الأسر هناك تقضي أيامًا بلا طعام. وحذر كبير اقتصادييه قائلًا: "عندما نُعلن المجاعة، يكون الأوان قد فات".
- أطباء بلا حدود: (MSF) وثّقت تصاعدًا مقلقًا في حالات الهزال الحاد بين الأطفال، إذ ارتفعت من 293 حالة في مايو/ أيار إلى 983 حالة في يوليو/ تموز، معظمهم دون السنتين. وقالت إن التجويع متعمد، مشيرة إلى مشاهد لأمهات بأوزان دون 40 كيلوغرامًا ورضّع خدّج. وطالبت بفتح ممرات إنسانية فورًا.
تقييم نقدي لدور الأمم المتحدة بين التقاعس والعوائق
في الختام لا بد من تقديم تقييم صريح لأداء الأمم المتحدة حيال المجاعة في غزة، وطرح السؤال الجوهري: هل كان تأخر المنظمة في إعلان المجاعة مجرد التزام بالمعايير الفنية؟ أم أنه ترددٌ يعكس فشلًا أخلاقيًا في مواجهة كارثة موثّقة بالصوت والصورة؟
إن الصورة قاتمة، لا بفعل الشعارات، بل بفعل المعطيات الميدانية الحية: أطفال يموتون جوعًا، عائلات تبحث عن الطحين في القمامة، ومراكز إغاثة تُقصف عمدًا.
إعلان
وكل ذلك موثق على شاشات العالم. ومع ذلك، تتردد المنظمة الأممية في إطلاق وصف "المجاعة"، وكأن الصور والشهادات ليست كافية ما لم تمر عبر فلاتر منهجية وبيروقراطية معقّدة.
ومن الناحية الفنية، تُفهم رغبة الأمم المتحدة في احترام أدوات التصنيف العلمي، وضمان مصداقية بياناتها. لكن هذا الحذر، في ظل واقع إنساني بالغ القسوة، يتحول إلى عبء. إذ إن انتظار دلائل كمية "مثالية" في مناطق يُمنع فيها الوصول وتُقطع فيها الاتصالات، هو ضرب من الإنكار غير المبرّر.
لقد تحوّلت المعايير الفنية إلى عذر يُعلّق عليه التأخير، رغم أن كل مؤشرات المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) قد تجسدت فعليًا على الأرض. الصور لا تكذب، ولا تنتظر استبانات.
أما من الناحية السياسية، فالأمر أشد تعقيدًا. إعلان المجاعة في غزة يُعد بمنزلة إدانة صريحة لسياسات إسرائيل الإجرامية، بل قد يزيد من القناعة بضرورة مساءلة إسرائيل دوليًا بموجب القانون الدولي الإنساني.
وهذه خطوة تدرك الأمم المتحدة أنها ستواجه بسببها ضغوطًا شديدة، خصوصًا من دول كبرى تدعم إسرائيل. لذلك، آثرت المنظمة حتى الآن استخدام لغة حذرة، فضفاضة، لا تضع الأمور في نصابها الكامل.
لكن ماذا تبقى من دور أممي إذا كان الخوف من الصدام السياسي يجمّد الشهادة على الجرائم؟ الأمم المتّحدة ليست مجرد هيئة فنية؛ إنها حكومة عالمية تمثل ضميرًا دوليًا. وإذا اختارت الصمت أو التردد في لحظة كارثية كهذه، فإنها تهدر ما تبقى من مكانتها الأخلاقية.
لكن في غزة، الزمن ليس سلعة. كل ساعة تأخير تعني موت طفل أو أم أو مسنّ. وكل عبارة حذرة تُصدرها الأمم المتحدة تُفسَّر في الميدان كرضا ضمني، أو على الأقل كعجز عن قول الحقيقة.
الحقيقة أن الأمم المتحدة- رغم تحذيرات منظماتها كاليونيسيف والأونروا وبرنامج الغذاء العالمي- لم تجرؤ بعد على النطق بكلمة "مجاعة". وهي بذلك تُفرّغ تحذيراتها من مضمونها، وتفقد القدرة على تعبئة العالم لإنقاذ ما تبقى من الحياة في غزة.
لا يكفي أن تقول المنظمة إنها "تشعر بالقلق"، بل عليها أن تُسمّي الأمور بمسمياتها، وأن تتحمّل تبعات إعلان الحقيقة، لا أن تساير مصالح الأقوياء.
وإذا استمرت الأمم المتحدة في هذا المسار، فإنها لا تُفرّط فقط بواجبها في غزة، بل تُفرّط بمبرر وجودها ذاته. حياة مئات الآلاف من البشر، ومصداقية النظام الدولي، ومستقبل آليات الحماية الجماعية، كلها معلقة اليوم على شجاعة تسمية الواقع باسمه: إنها مجاعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق