
21 يوليو 2025 - 11:30
كأن عقارب الساعة متوقفة، وكل ما هو مرتبط بالشأن الاجتماعي راكد وجامد، لا حديث في التناول الإعلامي، في الوقت الحالي، إلا عن الأوراش المفتوحة استعدادا لتنظيم كأس العالم 2030. وزراءٌ يُبشِّرون بالغنائم المتوقع حصدها من استضافة هذا الحدث، ومُدافعون يصطفون في معسكر التنويه بصواب قرار احتضان المونديال، بينما آخرون يجزمون بأن المغرب لن يكون كسابق عهده بعد خمس سنوات، في أعقاب إيواء مباريات هذه المنافسة العالمية.
لكن في غمرة كل ذلك، طالعتنا صحيفة "لوموند" الفرنسية، قبل حواليْ أسبوعيْن، بتقرير كما أنه جاء ليوقظنا من أحلامنا، ويضعنا أمام مرآة الواقع. استعرضت هذه المادة الإعلامية ظواهر تنخر مجتمعنا، وهو يشهد في جانب منه ما يُناقض الحضارة والتحضُّر، ويتعارض مع "المدينة الفاضلة" التي يجري التسويق لها بفضل المشاريع قيد الإنجاز تحضيرا للمحفل العالمي.
ورغم ما يُمكن أن يُقال عن خلفيات ما أصدرته الجريدة الفرنسية، وما إن كانت البواعث التي تُحرِّكها تنهل من "الاستشراق" الذي درجت "الدول الاستعمارية" على التعاطي به مع "المستعمرات" السابقة، إلا أن الواقع يفرض نفسه بقوة، والحال يشي بأن ما أبرزته الصحيفة يتطابق أو يكاد مع ما هو كامن في المشهد، ورابض خلف الستار، حيث "التحرّش" يمسُّ النساء، وقوانين السير تُستباح، والمرافق العامة تُنتهك بلا وخزٍ للضمير، في حالات كثيرة.
جاءت هذه السردية الحاضرة في التقرير مدعومة بنتائج استطلاع أقامه "المركز المغربي للمواطنة"، والتي خلصت إلى أن 80 في المئة من المُستجوبين يُدينون غياب النظافة في الشوارع، و60 في المئة يستنكرون القيادة الخطرة للمركبات على الطرقات، وحوالي 75 في المئة يشجبون التحرُّش ضد النساء. هذه أرقامٌ تبعث على القلق، وتفتح جروحا لن تندمل إلا بمجابهة الحقيقة، ومعالجتها بتجرُّد، بعيدا عن المزايدات السياسية والحسابات الشخصية.
الحديث عن جدوى تنظيم كأس العالم قد يبدو غير منتجٍ الآن ، والبلد أخذ ينخرط في تهيئة الأوراش والاشتغال على المشاريع، مُنطلقا من رؤية أن احتضان هذا الحدث سيكون مُحفِّزا للتنمية ومُحرّكا للعجلة الاجتماعية والاقتصادية، لكن تناول ما يجب أن يسير بالموازاة مع تشييد الملاعب وتطوير المطارات وتوسيع الطرق السيارة، وأعني بذلك تقويم السلوك الفردي وإيقاظ الحس المواطناتي، من احترام للمرفق العمومي المشترك، وتوقير خصوصيات الأفراد، فإن هذا يكتسي أهمية بالغة ويحمل راهنية مُلحة تضاهي بناء العُمران وإحداث البنايات.
ما يَسوقه العديدون عن أهمية تجهيز المغرب ليكون مسرحا للمونديال، وما سيفتحه ذلك من منافذ للإقلاع الاقتصادي والمجتمعي، يظل مشروعا، ولو أن الدراسات العلمية والإحصائية التي ربطت التنمية باستضافة كأس العالم ليست بالغزيرة ويطبعها بعض التناقض، غير أن هذه النهضة المُستهْدَفة تحتاج هي الأخرى إلى أرضية خصبة تدفع بها إلى الأمام، ولن تبلغ مرادها دون تهيئ العقليات، وتجويد النمط الفكري للفرد، وتمتيعه بأدوات التنشئة الاجتماعية السليمة، حيث الأسرة تؤدي دورها والمدرسة تضطلع بمهامها.
غاب ربما، عمن يُبدي موقفا قطعيا يُجسّد المونديال كمرادفٍ للتنمية، أن هذه المعادلة ليست مرتبطة فقط بالرفع من عدد السياح ومضاعفة العملة الصعبة، أو تحديث البُنى التحتية والاستئثار باهتمام العالم، بل العملية مُركّبة ومتشابكة، ولا يُمكن مُقاربتها بهذه الاختزالية. كم كانت الصورة المرسومة لمغرب ما بعد كأس العالم ستكون أكثر تبلوراً وواقعية لو أنها استحضرت الرغبة في خلق مناخ التحضر كما يجري الحديث عن تحفيز الاستثمار، والسعي إلى تحول فكري يُقلّص العادات السلبية للمجتمع مثلما يُبشَّر برفع النمو الاقتصادي وخفض البطالة.
إن الاستثمار في الرأسمال البشري والأدمغة يُماثل على مستوى الأهمية أي إنفاقٍ في العُمران والبنايات، وأي تعارض بينهما أو اختلاف في وتيرة السّير سيُخِلّ التوازن، وحتى إذا أُنجزت المرافق الحديثة، على سبيل المثال، فإننا قد نُعرّضها للخطر إذا لم نُنتج أفرادا لهم القدرة الفكرية والسلوكية على حُسن استعمالها، وكم من ملعبٍ، مثلا، اخترقه التخريب ومقاعده سقطت ضحية التهشيم، فقط لأننا لم نُطابق درجة هذه البنى التحتية مع وعي فئة مهمة من الجماهير والمناصرين والمرتادين.
الهامش الزمني لازال، في الواقع، يُسعفنا على إمكانية التدارك، قبل خمس سنوات من كأس العالم، ويُتيح لنا استهلاك الحديث عن برامج البنية التحتية بذات الدرجة التي يمكن أن نتناول بها تجويد السلوك الفردي والجماعي، وتنمية التعليم وإضفاء المزيد من الفعالية على مؤسسات التنشئة الاجتماعية. المدرسة والأسرة والإعلام يقع على عاتقهم قيادة حملات توعوية وبيداغوجية لخلق مناخٍ صحي ينشأ فيه الفرد، ويُفكّر بمنسوب عالٍ من الوعي والتحضُّر.
إذا كان المُراد الأساسي من تنظيم كأس العالم هو إحراز خطوات إلى الأمام في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فذلك لن يكتمل إلا بالاشتغال على وعي المواطنين ورفع التحضُّر بين الأفراد، ذلك أن هذه العملية مترابطة ولا يُمكن أن تنجح بأجزاء معطوبة وأخرى مُتحرّكة.
0 تعليق