في قلب بيت حائل، حيث تتنفس الجدران عبق الطين، وتوشوش الزوايا بأصوات الآباء والأجداد، يجلس أحد الحرفيين الحائليين، يدوّي بصمته أكثر من كل العناوين، ممسكاً بليف النخيل، يصنع منه ما كان يُشكّل الحياة في زمنٍ اكتفى بالطبيعة وتواضع الوسيلة.
هذه المشهدية، العابرة في صورتها، العميقة في رمزيتها، ليست مجرد استعراضٍ لحرفة تقليدية، بل هي وثيقة حية من هوية منطقة حائل، التي عُرفت بتاريخها الزراعي والتجاري، وارتباطها الوثيق بالنخلة.. تلك الشجرة التي لم تكن مجرد مصدر غذاء، بل عماد سكن، وسقف ظل، وحبل نجاة، وأساس حرفة.
هذا الحرفي ليس اسماً في سجل، بل امتدادٌ لمدرسة متكاملة من الحِرف اليدوية التي ازدهرت في شمال الجزيرة العربية، وتحديداً في حائل. يجلس على الأرض كما كان يفعل الأولون، يفرز الليف، يفتله، يشده، يلوّنه، ويحوّله إلى حبال وسلال وأدوات كانت تُستخدم في المزارع والبيوت والأسواق.
أصابع يده تتحرك بدقة فطرية لا مخطط ولا آلة، بل تراتيل ذاكرة تعلمت من النخلة ومن الشمس ومن التراب.
اختار هذا الحرفي أن يكون شاهداً لا متفرجاً، ينقل للأجيال الجديدة كيف كانت حائل تنتج من بيئتها احتياجاتها. من الجدران المكسوّة بالسعف والحبال والمصنوعات اليدوية، إلى الألوان الطبيعية والنقوش التي تعكس جماليات العمارة الحائلية القديمة، يجد الزائر نفسه أمام لوحة لا تكتفي بإبهاره، بل تُربّيه على فكرة الاكتفاء والبساطة والانتماء.
بيت حائل مدرسة حيّة لتاريخ الإنسان السعودي، حين كان يصنع من الحاجة مهارة، ومن محدودية المورد غنى، ومن الليف حياة.
الحرفي في هذا المشهد يُمثّل ما تسعى له رؤية المملكة 2030: استعادة التراث الحي، وتوظيفه كأداة للتنمية الثقافية والسياحية. ليس بوصفه ترفاً، بل بوصفه ركيزة وطنية، تعكس عمق الجذور واتساع الثقافة السعودية في تنوّع مناطقها وأساليبها، من سعف النخل في الجنوب، إلى صناعة السدو في الشمال، ومن الليف في حائل إلى الزخارف الطينية في نجد.
أخبار ذات صلة
0 تعليق