جنوب سيناء ـ في الثانية صباحا، وبينما تبتعد الحافلة السياحية عن الأرجاء، قدّرت أن الحظ ليس في صالحي تلك الليلة، فجميع رفاق الرحلة نشطاء ومتحمسون لتسلق جبل موسى ثاني أعلى قمة في سيناء، في حين أدرك جيدا حدود قدراتي الجسدية، التي لا يسعها المشي نحو ست ساعات صعودا وهبوطا.
لم يكن صعود جبل موسى 2285 متر- هدفا لي، فدير سانت كاترين هو المقصد، غير أنني لم أتمكن من إيجاد برنامج سياحي يستهدف الدير وحده دون المغامرة الجبلية.
يشجعني الدليل البدوي -ينتمي لإحدى القبائل التي تسكن سيناء ويمتهن إرشاد زوار الصحراء- على خوض مغامرة صعود الجبل، مسترجعا قصص سياح تتعدى أعمارهم الثمانين، وقد نجحوا في الوصول إلى القمة، يقول "عندما تصلين قمة الجبل وتشاهدين شروق الشمس، ستزول عنك كل المشقة".

ويزيد بنبرة واثقة كأنه يحاصر التردد "خلال رحلة الصعود سيكون جبل التجلي قريب للغاية من موقعك، الله تجلى لذلك الجبل".
نصف تجربة
لا نقطة ضوء في المحيط، حتى النجوم البارزة في السماء لا تمنحنا سوى جمال تخطيطها، بدأ رفاق الرحلة في استخدام كشافات الإضاءة التي منحها السائق لكل راكب قبل مغادرة الحافلة وقد سرت على خطاهم.
أضاء الكشاف دائرة صغيرة أمام خطواتي وبها تفاديت الأحجار التي تتناثر بالطريق، في حين بدأ الدليل البدوي محاولة طمأنتني بأن ثمة مكان للاستراحة بعد نحو ساعة "إذا شعرت بالتعب بإمكانك البقاء في الاستراحة حتى شروق الشمس ثم العودة إلى سفح الجبل وانتظارنا أمام الدير".
النجوم بوصلة الاتجاهات
رغم الإرهاق، بدت أجواء خلوة الصحراء مدهشة، وبسهولة رأيت كوكبة العقرب تتشكل في السماء، يقول البدوي واسمه جميل وهو شاب في الثلاثينيات من قبيلة الجبالية التي تسكن بوسط وجنوب سيناء منذ مئات السنين "إن أجداده اعتمدوا على النجوم كبوصلة للاتجاهات".

عرفت من جميل الذي يتحدث الإنجليزية بطلاقة ويمارس مهنته منذ نحو عشرين عاما أن النظام المتبع أن يتولى ثلاثة من البدو إرشاد كل فوج سياحي إلى قمة الجبل، ولكن هذا النظام جديد بعض الشيء فقبل ما سماه فترة الثورات كان الإقبال السياحي كبير للغاية على الجبل ما كان يجعل لكل فوج دليل واحد فقط.
إعلان
بعد حوالي ساعة، وصلنا إلى الاستراحة -وهي مصممة على الطراز البدوي وتقدم مشروبات وأطعمة خفيفة- وقد نفدت كل همتي لاستكمال رحلة صعود الجبل، وانتهيت إلى قرار البقاء بالاستراحة حتى خيوط الفجر لأعود إلى السفح وحدي.
خلوة إيمانية
شعرت بالخيبة كوني لم أنجح في استكمال الرحلة إلى قمة الجبل، لكن ثمة رحلة أخرى كانت بانتظاري جعلتني أعد نفسي أشد المحظوظين ذلك الصباح.

حين وصلت إلى السفح، لاح دير سانت كاترين تحتضنه الجبال أو ربما هو الذي يحتضنها، وكان الهواء بارد ونقي والصمت عميق يسود الأنحاء، كأن الطبيعة تحبس أنفاسها احتراما لقدسية المكان.
ترجح المرويات التاريخية أن الله عز وجل قد تجلى لنبيه موسى في نطاق تلك البقعة، وهنا أوضح أن الدير يقع على سفح جبل موسى ولكن السفح نفسه يشبه الوادي وتحيطه جبال أخرى أقل ارتفاعا، وإلى الشمال الشرقي من جبل موسى يبرز جبل التجلي.
اتخذت صخرة أعلى تل يقابل سور الدير مكانا للانتظار، لمدة ثلاث ساعات بقيت متكئة إلى تلك الصخرة أتأمل صنع الله، ليس للطبيعة فحسب بل لسكينة في قلب صحراء، وصدقا لم أشعر تماما بالوقت وكأن ثلاث دقائق فقط قد مضت، وهكذا أحيانا، تسير بك الأقدار إلى أماكن لا لتراها بل لتُرى بها أو لتمنحك سرها.

تمنيت ألا أغادر المكان، ولكن وفي حدود الثامنة صباحا، ومن موقعي المرتفع، لمحت الأفواج عائدة من قمة الجبل، ما يعني قرب موعد زيارة دير سانت كاترين، حيث يفتح أبوابه للزائرين لمدة ساعة واحدة فقط خلال اليوم تبدأ من التاسعة إلا الربع صباحا.
قرون من العزلة
الثامنة والنصف صباحا، ينتظر الزوار أمام البوابة الحجرية للدير، بعضهم يستريح من رحلة جبل موسى، وآخرون يلتقطون صورا تذكارية أمام السور الضخم للدير.
يصل ارتفاع سور الدير لنحو 15 متر، وهو يشبه في تصميمه حصون العصور الوسطى، فتتخلل زواياه أبراج حراسة كأنه يحمي قرونا من العزلة الإيمانية.

تنفتح أبواب الزيارة في الموعد المحدد، ومجازا نقول إننا في زيارة لدير سانت كاترين لكن لو أردنا محاكاة الدقة فالمكان عبارة عن مجمع للأديان، حيث توجد به أماكن عبادة وآثار تخص الأديان السماوية الثلاثة.
يعود تاريخ البناء إلى القرن الرابع الميلادي، حين أمرت الإمبراطورة الرومانية هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين سنة 432 ببناء دير يجمع رهبان سيناء، ثم أكمل تشييده الإمبراطور جوستينيان سنة 545.
سبب التسمية
فور الدخول من البوابة الحجرية، يبدأ المرشد السياحي في شرح السبب وراء تسمية الدير بهذا الاسم "ولدت القديسة كاترين بمدينة الإسكندرية سنة 194 أثناء خضوع مصر للحكم الروماني، وواجهت كاترين عقوبة الإعدام لتمسكها بالديانة المسيحية، فقد كانت الإمبراطورية الرومانية وقتئذ مازالت تعيش عصور الآلهة".
وقد تم نقل رفات القديسة إلى الدير تحقيقا لحلم رآه أحد الرهبان في منامه -بعد ثلاثة قرون من رحيل كاترين- بأنها نُقلت إلى هذا المكان، وقد أطلق اسمها على الدير وعلى المنطقة كلها.
في عام 2002، صنفت منظمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونيسكو" دير سانت كاترين على قائمة التراث العالمي، واعتبرته المنظمة سانت كاترين "الدير المسيحي الأقدم الذي حافظ على وظيفته الأساسية".
إعلان
ملتقى للأديان
دهاليز وممرات كثيرة وراء سور سانت كاترين الضخم، كل منها يقودك إلى معلم ديني، يمثل أهمية لإحدى الديانات السماوية الثلاث.
حين دخلت كنيسة التجلي وهي الأشهر بين عشر كنائس توجد داخل الدير وتعد من أقدم الآثار المسيحية في العالم، حاولت استعمال الكاميرا لأسجل الأيقونات البيزنطية النادرة والأعمدة المميزة والسقف الخشبي المزخرف بالتراث، لكن أحد الرهبان نبهني بأن التصوير ممنوع داخل دار العبادة.

يقول المرشد السياحي علاء نادر إن كنيسة التجلي تعد من الأماكن القليلة حول العالم التي تحتفظ بالأيقونات البيزنطية، حيث تعرض كثير منها للتدمير بين القرنين الثامن والعاشر الميلادي، إذ ظهر تيار مسيحي يُحرم الأيقونات ويدعو لتدميرها.
وعلى بُعد أمتار من الكنيسة، يقع الجامع الفاطمي وهو أيضا دار عبادة أثري يرجع تاريخه لزمن حكم الفاطميين، وتحديدا تم تشييده في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 1106، ولم يحالفني الحظ لزيارة الجامع كونه مغلق لأعمال ترميم به.
مسجد داخل دير
يؤكد المرشد السياحي أن بناء المسجد داخل الدير كان هدفه رمزيا للدلالة على متانة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في العهد الفاطمي، وقد ظل المسجد لفترة طويلة بمثابة مقصد للحجاج في طريقهم إلى مكة.
أمام مئذنة المسجد بالضبط يوجد بئر يُعتقد أنه التقى عندها نبي الله موسى بابنتي شعيب، وعلى الجدار المحيط بالبئر تلمح لوحات معلقة بشكل دائري لتحكي رحلة خروج موسى من مصر ثم عودته إليها، وعلى مقربة هنالك صنبور يتصل بالبئر بحيث يمكن للزائر الارتواء منه.

ولدير كاترين مكتبة ضخمة، قرأت عن أهميتها قبل الزيارة وكنت متحمسة للتجول بها، وهي تضم ثاني أكبر مجموعة من المخطوطات الدينية النادرة بعد الفاتيكان، ويبلغ عددها 6 آلاف مخطوطة، وحين أصبحت أمام باب المكتبة عرفت من أحد العاملين أنها مغلقة أمام الزائرين لأسباب تخص جوانب إدارية.
حين سُمع صوت الله
عبر ممر ضيق مشيت باتجاه شجرة العليقة، أمامي مباشرة توقف شاب -على الأرجح يدين بالإسلام- ليخلع حذاءه تنفيذا للأمر الإلهي "إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى"، وفي تلك اللحظة تحديدا قررت أن أعاود زيارة ذلك المكان متحررة من أي مهام صحفية تحول دون إدراك حدود المعجزة.

عند تلك الشجرة يُعتقد أن النبي موسى رأى عندها النار أو النور، وبعدها سمع نداء ربه، ليُمنح موسى لقب "كليم الله".
في سفر الخروج بالإصحاح الرابع والعشرين، يقول الرب لموسى "اصعد إلى الجبل، وكن هناك، فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم".
أمور لا تفسر
بسور حجري تحاط شجرة العليقة لكن أوراقها الوارفة طيلة العام تمتد إلى خارجه، ويحرص بعض الزوار على قطف ورقة أو أكثر للاحتفاظ ببركة المكان، رغم وجود لافتة تحذر من ذلك، كما يقدم البعض على كتابة أدعية وأمنيات، ووضعها بين ثنيات أحجار السور.

سألت المرشد السياحي عن كيفية التقارب المكاني بين شجرة العليقة وبئر موسى بالنظر إلى التسلسل الزمني لرحلة خروج النبي من مصر ثم عودته إليها، فأجاب أن ثمة أمور دينية لا يمكن تفسيرها، لكنه في الوقت نفسه، يرجح أن البئر الموجود داخل الدير ليس هو نفسه المشار إليه بالنص القرآني.
ومع الساعة العاشرة إلا الربع، بدأ الزوار في مغادرة الدير استعدادا لبدء الصلوات بالكنائس، وعلى ذلك يتوجه كثير من السياح إلى حافلات العودة، بينما يقرر البعض أن تمتد رحلتهم إلى مقصد آخر، وهو مقام النبي هارون، الذي يقع على جبل قريب من الدير.
إعلان
كيف تصل؟
تسهل الشركات السياحية زيارة سانت كاترين من أي مدينة ساحلية بجنوب سيناء مثل شرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا، وأقربها إلى كاترين هي مدينة نويبع، فلا تستغرق المسافة أكثر من ساعة و20 دقيقة بينما أبعدهم هي مدينة شرم الشيخ حيث تستغرق الرحلة نحو ثلاث ساعات.
ولكن إذا كان هدفك الخلوة الدينية بعيدا عن الأنشطة السياحية الأخرى، فبإمكانك أن تختار مدينة سانت كاترين نفسها كمحل إقامة، حيث توجد فنادق ومخيمات وهي تتسم بالبساطة المنسجمة مع طبيعة المكان.
لو كانت شرم الشيخ هي وجهتك للإقامة، وترغب في زيارة كاترين فعليك معرفة أن برنامج الرحلة يبدأ في حدود الخامسة صباحا وينتهي في الواحدة مساءً، ولو جمعت بين زيارة جبل موسى والدير فستبدأ الرحلة في التاسعة مساء وتنتهي عند الواحدة مساء اليوم التالي، وتصل التكلفة لنحو 25 دولار.
تتطلب الرحلة ارتداء ملابس مريحة لصعود الجبل ومحتشمة ليسمح لك بدخول دور العبادة، كذلك تحتاج روح مستعدة لخوض مشاعر السكينة بالقرب من أحجار قديمة.
0 تعليق