بعد ظهر يوم صيفي من مارس/آذار عام 2025، وقف الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش السوداني، مرتديًا بزته العسكرية المموهة على شرفة القصر الجمهوري في الخرطوم.
لم يكن القصر كما عرفه قبل عامين؛ فقد توزعت آثار الرصاص على جدرانه وتكسر زجاج نوافذه وتناثرت أحجار جدرانه الخارجية وخلّفت المعارك خرابًا ظاهرًا في قاعاته الفسيحة التي كان يسير فيها البرهان قبل قليل.
مع ذلك، كان البرهان رافعًا قبضته اليمنى في ثقة وسعادة، محاطًا بعدد من الجنود الذين علت وجوههم ابتسامات النصر، بينما صدحت في الخارج هتافات تبارك تحرير الخرطوم. بعد نحو عامين من حرب مدمّرة، أعلن البرهان أن العاصمة السودانية أصبحت حرة من قبضة قوات الدعم السريع المتمرّدة التي يقودها حليفه السابق محمد حمدان دقلو.
لعل البرهان تذكر حينها ذلك المساء البعيد، في إحدى قرى شمال السودان، عندما جلس الطفل عبد الفتاح إلى جوار والده، البرهان عبد الرحمن البرهان، يستمع إلى حكاياته حول الأرض والنيل، وعن تلك الرؤيا التي رآها ذات ليلة، حين قال له بثقةٍ تحمل شيئا من تجلّي الصوفية وآمال الأجداد: "سيكون لك شأنٌ عظيم في السودان يومًا ما".
لم تكن تلك الكلمات مجرد حلمٍ أبويٍّ عابر، بل نبوءة تسللت إلى وجدان الطفل، فكبر وهي تسكنه، كأنها قدرٌ ينتظره عند مفترقٍ غامض من الزمن.
لم يكن عبد الفتاح البرهان أول من تلاحقه الرؤى إلى مراكز السلطة في السودان. لطالما ارتبطت القيادة في المخيال الشعبي والسياسي السوداني بالرؤى وسحر القدر، منذ الصادق المهدي وحتى عمر البشير، الذي حفّت بدايات حكمه بخطاباتٍ مشبعة بالرموز الدينية والدلالات القدرية.
في نهاية المطاف، أصبح البرهان رجلا ذا شأن في السياسة السودانية كما توقع أبوه وكما لم يتوقع أحد في الوقت نفسه، لكن المؤكد أن السودان بحاله اليوم ليس هو الدولة التي حلم البرهان ووالده بأن يكون ذا شأن فيها.
إعلان
فمنذ الاستقلال، لم تعبق سماء السودان بشيء كما عبقت برائحة البارود، ولم يشكل تاريخه الحديث شيء مثلما فعلت تدخلات المؤسسة العسكرية المتتالية في ميدان السياسة.
غير أن الرياح الشعبية هبّت في أكتوبر/تشرين الأول 1964، حين اندلعت أول ثورة جماهيرية تسقط نظامًا عسكريًّا في أفريقيا ما بعد الاستعمار، وأعادت السلطة إلى المدنيين. لكن ذلك لم يمنع عودة السودان إلى الحلقة ذاتها، إذ لم تمضِ سنوات حتى استولى "الضباط الأحرار" بقيادة جعفر النميري على الحكم، مدعومين هذه المرة من قوى يسارية.
هكذا ظلّت العلاقة بين المدني والعسكري في السودان علاقة ارتباك وتواطؤ في آن، حتى جاءت ثورة أبريل/نيسان 1985، لتسقط نظام مايو/أيار بقيادة النميري. وبعد ثلاثة أعوام من وفاء المشير عبد الرحمن سوار الذهب بوعده وتسليم السلطة للمدنيين، عادت الدائرة لتُغلق مرةً أخرى، بانقلاب عسكري نفّذه العميد عمر البشير، وصمّمه إسلاميون بقيادة الراحل حسن الترابي.
حكم البشير السودان لثلاثة عقود، حتى أطاحت به انتفاضة ديسمبر/كانون الأول 2018، التي أعادت الأمل في مسارٍ مدنيٍّ ديمقراطي. لكن هذا المسار لم يلبث أن تعثر وعاد العسكريون مجددًا إلى الواجهة، هذه المرة بوجهٍ جديد: الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
في هذا النص، نقترب من سيرة الرجل الذي يكتب سيرة الحكم في السودان اليوم، نتابع محطاته، وتحوّلاته، وصراعاته المتعددة، لفهم المسار الذي قاده إلى القمة حيث يسهم -صحبة زملائه العسكريين- بنصيب وافر في رسم ملامح مستقبل السودان في إحدى أكثر لحظات تاريخه العريق تعقيدًا واشتعالًا. تتشابك في شخصية البرهان خيوط العسكري والسياسي، التقليدي والثوري، الريفي والقبلي، المتن والهامش، مما يجعل فهم دوره مفتاحًا لفهم الكثير من تعقيدات السلطة والمجتمع في السودان الحديث.
الفصل الأول: من دروب التصوف إلى عتبات السلطة
بعيدًا عن أطراف السودان، وعلى بُعد 173 كيلومترًا شمال العاصمة الخرطوم، وتحديدًا في قرية قندتو بولاية نهر النيل، التي ينتمي معظم سكانها إلى قبيلة الشايقية، وُلد عبد الفتاح البرهان في عام 1960. كان طفلًا جديدًا لأسرة سودانية يغلب عليها التدين الصوفي على الطريقة الختمية، وهي إحدى أعرق الطرق الصوفية المتجذّرة في الوجدان السوداني. وكان البرهان الثالث بين سبعة إخوة أشقاء وأختين شقيقتين، إضافة إلى إخوة وأخوات غير أشقاء.
لكن العلاقة بين عائلة البرهان والتصوف تمتد إلى ما هو أعمق من مجرد ممارسة روحية. فقبر جده، عبد الرحمن البرهان، الواقع في مدينة العيدج وسط السودان، يُعدّ من أبرز المزارات الصوفية في البلاد. أما والدته، صفية الصديق، فيعود نسبها إلى الشيخ علي الحفيان، أحد شيوخ الصوفية المعروفين.
كما أن جدته من جهة والده تنحدر من أسرة آل الشيخ عبود، وهي نفس الأسرة التي ينتمي إليها الرئيس السوداني الأسبق إبراهيم عبود.

ترعرع البرهان إذن في بيئة ريفية محافظة غرست فيه قيم التدين والزهد، بعيدًا عن ضوضاء السياسة التي كانت تعصف بالعاصمة، لكنه لم يقنع بهدوء الريف وآفاقه المحدودة. لذلك، كغيره من أبناء القرى الطموحين، التحق بالجيش السوداني وهو في مقتبل العمر، مقتفيًا أثر كثير من أبناء جيله الذين رأوا في المؤسسة العسكرية سلّمًا للترقي الاجتماعي وربما خدمة الوطن.
إعلان
بدأ عبد الفتاح البرهان رحلته التعليمية في مسقط رأسه، ثم أكملها في مدينة شندي القريبة، قبل أن يلتحق بالكلية الحربية السودانية ضمن الدفعة 31. تلقى تعليمه العسكري، ثم واصل تطوير مهاراته بتدريبات في الأردن ومصر، حيث نسج علاقات مهنية مع زملاء من الجيوش العربية. وقد أتاح له هذا التأهيل أن يتدرّج في المهام والمناصب، حتى أصبح أحد أركان المنظومة القيادية في الجيش السوداني.
لم تكن رحلة البرهان العسكرية سهلة أو هادئة؛ فمن غير الممكن أن تكون كذلك في بلدٍ أنهكته الحروب والنزاعات المتواصلة.
وبمجرد انضمامه إلى الجيش، شارك البرهان في الحرب ضد تمرد الحركة الشعبية في جنوب السودان، التي تُعد من أطول الصراعات الدامية في القرن العشرين، إذ استمرت 22 عامًا، من يونيو/حزيران 1983 حتى يناير/كانون الثاني 2005، وأسفرت عن مقتل نحو مليوني سوداني، وتشريد ما يقارب أربعة ملايين. وقد سبقتها الحرب التي اندلعت عام 1955 قبيل استقلال السودان، وراح ضحيتها قرابة نصف مليون شخص.
كلا الحربين دارت رحاهما في جنوب السودان، ومهدتا في النهاية لانفصال الجنوب عام 2011 ليتحول السودان منذ ذلك الحين رسميا إلى "سودانين". وجد البرهان نفسه يخوض غمار هذه الحروب، ثم أُرسل في مطلع الألفية الجديدة إلى دارفور حيث تصاعد التمرّد ضد نظام البشير.
في دارفور، حمل البرهان رتبة عميد وقاد وحدات في ميادين ملتهبة شهدت معارك شرسة. وهناك التقى للمرة الأولى بشخصية ستغيّر مجرى حياته ومستقبل السودان: محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي.
كانت قوات حميدتي -المعروفة آنذاك بمليشيات الجنجويد قبل أن تتحول لاحقًا إلى قوات الدعم السريع- تقاتل إلى جانب الجيش الحكومي ضد المتمردين في دارفور.
ورغم الاتهامات الواسعة بارتكاب فظائع ضد المدنيين التي وجهتها منظمات دولية إلى كل من الجيش والجنجويد خلال تلك الحرب، فقد نجح البرهان في الحفاظ على سمعة مهنية نظيفة نسبيًّا. فلم يأتِ اسمه ضمن قائمة المتهمين بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية التي أصدرها لاحقًا مدعي المحكمة الجنائية الدولية بشأن نزاع دارفور.
" frameborder="0">
ولم يكن البرهان -بخلاف معظم كبار ضباط نظام البشير- محسوبًا على التيار الإسلامي الحاكم آنذاك، الأمر الذي جعله أقل استهدافًا من قبل القوى الإقليمية المناهضة للإسلاميين أو المجتمع الدولي. ظل البرهان طوال عهد الرئيس عمر البشير ضابطًا محترفًا يؤدي واجباته بعيدًا عن الأضواء.
كان ولاؤه للمؤسسة العسكرية في المقام الأول، وليس لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وهو ما أكسبه احترام رفاقه في الجيش. وربما ساهمت خلفيته الصوفية في إبقائه بعيدًا عن العمل السياسي المباشر، ومن ثَم تجنب الضوء وما قد يجيء معه من العقوبات التي طالت نظام البشير.
بدأ البرهان مساره القيادي داخل المؤسسة بتوليه مهمة التدريب في المعاهد العسكرية بمنطقة جبيت شرقي السودان، ثُم نُقل إلى العمل الدبلوماسي ملحقًا عسكريًّا في الصين، وهي تجربة عززت حضوره في دوائر السياسة الخارجية.
وبعد عودته، تولّى قيادة قوات حرس الحدود، إحدى أهم التشكيلات العسكرية في البلاد، ثم عُيِّن نائبًا لرئيس أركان عمليات القوات البرية، ليُرقَّى لاحقًا إلى رئاستها، وهو المنصب الذي عزز نفوذه داخل المؤسسة العسكرية ومهّد له موقعًا مؤثرًا في دوائر صنع القرار.
لم يقتصر الدور العسكري لعبد الفتاح البرهان على ساحات القتال داخل السودان، بل امتد إلى الساحة الإقليمية، حيث أشرف على القوات السودانية المشاركة في التحالف العربي بقيادة السعودية ضمن عملية "عاصفة الحزم" باليمن، وهناك اقترب أكثر من حميدتي.
وتشير الباحثة ويلو بريدج، مؤلفة كتاب "الانتفاضات المدنية في السودان الحديث"، والمحاضرة في التاريخ بجامعة نيوكاسل البريطانية، إلى تعاون وثيق بين البرهان والدعم السريع في ملف الحرب في اليمن.
ويذهب الصحفي جيروم توبيانا في مجلة "فورين بوليسي" إلى أن علاقتهما توطدت أكثر خلال مشاركتهما في حرب اليمن عام 2015، حيث كان البرهان قائدًا للقوات البرية التي أشرفت على العمليات، بما فيها تلك التي خاضتها قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
وفي 26 فبراير/شباط 2018، تمت ترقية البرهان إلى رتبة فريق أول ركن، وعُيّن مفتشًا عامًّا للجيش، ليصبح صاحب ثالث أعلى رتبة عسكرية في البلاد. لاحقًا، عرض عليه الرئيس عمر البشير تولي منصب والي إحدى الولايات، غير أن البرهان الذي كان يتابع تصاعد التململ الشعبي عن كثب، رفض العرض بهدوء.
إعلان
وفي مناسبة عسكرية أقيمت في منطقة "وادي الحمار" بولاية نهر النيل -بُعيد أيام من اندلاع الثورة الشعبية في ديسمبر/كانون الأول 2018- أظهر البرهان جانبًا آخر من شخصيته العسكرية. ففي أثناء مسابقة للتصويب حضرها الرئيس البشير، فشل ضباط في إصابة الهدف بدقة، فاقتلع البرهان بندقية أحد زملائه، وأصاب الهدف بإتقان وسط ذهول وإعجاب الحضور.
كان هذا المشهد بمثابة استعراض لقدراته العسكرية، إذ نجح البرهان في تسديد كل طلقاته على الهدف وفق ما يعرف في تقاليد الجيش السوداني باسم "قدم القط"، حيث تتقارب الرصاصات على اللوح فيما يشبه أقدام القط. ولم تمضِ شهور طويلة بعد ذلك المشهد، حتى وجد البرهان نفسه يقف وجهًا لوجه أمام البشير، ليس ليتحدث عن دقة التصويب، بل ليبلغه بهدوء أن وقت الرحيل قد حان.
كان ذلك عشية الحادي عشر من أبريل/نيسان 2019، حين انهارت العلاقة بين المؤسسة العسكرية والبشير تحت ضغط احتجاجات شعبية هادرة استمرت خمسة أشهر، في واحدة من أطول موجات الحراك السلمي الحديث على مستوى العالم. وفي ذروة هذه اللحظة التاريخية، أعلن وزير الدفاع آنذاك، عوض بن عوف، في بيان متلفز "اقتلاع النظام" واعتقال البشير وتشكيل مجلس عسكري لإدارة البلاد. غير أن الشارع الثائر رفض البيان، معتبرًا الإطاحة بنظام البشير شكلية ما دامت السلطة قد انتقلت إلى أحد رجاله.

ما لبث بن عوف أن تنحى عن رئاسة ذلك المجلس تحت ضغط الشارع خلال أقل من يوم واحد، إذ رفض المحتجون أن يقود المرحلة الانتقالية أحد رموز حقبة البشير. عندها برز اسم البرهان كخيار توافقي مقبول، فهو عسكري محترف غير معروف لدى العامة بأنه من الحرس القديم الملطخة أيديهم بالدماء، وليس من الوجوه الإسلامية المعروفة بين رموز النظام السابق.
لم يكن الفريق البرهان وجهًا معروفًا في الإعلام أو لدى الشعب السوداني، إذ كان يفضل البقاء بعيدًا عن الأضواء، ملتزمًا برعاية أسرته الصغيرة المكونة من زوجته السيدة فاطمة سليمان وولدين وبنت.
وكان قليل الظهور الإعلامي مع عائلته، حريصًا على إبقاء حياته الخاصة في الظل بعيدًا عن صخب السياسة. ومع ذلك، وجد نفسه في تلك اللحظة أمام تحدٍّ كبير يتطلب منه مغادرة هذا النمط من الحياة. خرج البرهان ليؤكد في خطابه الأول عزمه على تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة بعد فترة انتقالية مدتها عامان، مشيدًا بالانضباط والوعي الثوري، ومطالبًا الشارع بالعمل معًا لتحقيق أهداف الثورة.
استقبل الشارع السوداني تعيين البرهان بنوع من التفاؤل الحذر. لكن هذه النظرة المتفائلة خالطتها أصوات لم تنل انتباها كافيا؛ فقد نقلت إذاعة دبنقا -وهي مؤسسة سودانية إعلامية معارضة تبثّ من هولندا- عن نازحين وسكان في وسط وغرب دارفور صدمتهم من تعيينه، قائلين إن يديه ملطختان بالدماء بسبب ما سموه "دوره في العمليات العسكرية التي ترافقت مع انتهاكات جسيمة خلال حرب دارفور".
وردّ البرهان على هذه الاتهامات بالقول إن ما جرى كان حربًا تبادل طرفاها الاتهامات بارتكاب جرائم.
الفصل الثاني: شراكة البندقية
تولى عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري الانتقالي في أغسطس/ آب 2019 وسط وعود ومطالبات واسعة بأن يلتزم الجيش بالتعهدات التي أعلنها، سواء أمام المحتجين في الشارع أو أمام المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والدول الغربية، وتتمثل تلك التعهدات في حماية السودان وضمان انتقال السلطة إلى حكومة مدنية عقب انتخابات ديمقراطية وشفافة.
في الأيام التالية، سعى الرجل إلى طمأنة الشارع والقوى السياسية الثائرة؛ فظهر في لقاءات متلفزة وهو يتحدث بنبرة هادئة عن انحياز الجيش لخيار الشعب، ووعد بتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة بعد فترة انتقالية.
بل إن البرهان روى لاحقًا كيف أنه شخصيًّا واجه عمر البشير في لحظات سقوطه، قائلًا له بصراحة إن قيادة الجيش قررت تنحيته حفاظًا على استقرار البلاد. تلك الرواية حملت في طياتها صورة ضابط يعتبر نفسه وطنيًّا يفعل الصواب حتى لو كلّفه ذلك عصيان أوامر قائده الأعلى.
وفي إجراء أوّلي له بعد تولّيه رئاسة المجلس العسكري، اتخذ البرهان نبرة تصالحية اتجاه الحركة الاحتجاجية، معلنًا رفع حظر التجوال الليلي الذي فرضه سلفه عوض بن عوف، والإفراج الفوري عن جميع المعتقلين من المتظاهرين.
إعلان
كان حميدتي قد رفض تولي ابن عوف رئاسة المجلس العسكري وأعلن عدم انضمامه إليه، لكنه سرعان ما أبدى ترحيبه بتولي البرهان للموقع، ورقّاه الأخير إلى رتبة فريق أول، ليصبح بذلك أصغر من يحمل هذه الرتبة الرفيعة في تاريخ المؤسسة العسكرية السودانية، رغم أن حميدتي لم يُكمل تعليمه الأساسي ولم يتلق أي تعليم عسكري رسمي.
في خضم هذا التفاهم الناشئ بين مكونات السلطة العسكرية، انشغلت القوى المدنية بمفاوضات تقاسم السلطة، مما أدى إلى تراجع الحراك في الشارع، باستثناء مجموعة أصرت على الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، مطالبة بتسليم فوري للسلطة إلى المدنيين.
ومع تصاعد الاعتصام، لم يدم شهر العسل بين العسكر والثوار طويلًا؛ فقد كان الدم على الأبواب حيث جاءت أحداث 3 يونيو/حزيران 2019 عندما شنت قوات عسكرية -يُعتقد أن غالبها من قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي- هجومًا عنيفًا لفض الاعتصام بالقوة، أسفر عن مقتل العشرات من المدنيين.

تقدّر المصادر عدد الضحايا بـ128 قتيلًا، إلى جانب المئات من الجرحى والمفقودين. وقد وُجّهت اتهامات إلى قوات الجيش بتنفيذ هذه المجزرة وبمحاولة إخفاء الجريمة عبر رمي جثث في نهر النيل عُثر على بعضها لاحقًا.
لكن تحقيقات إعلامية منها ما نشرته "بي بي سي" وثّقت تورط عناصر قوات الدعم السريع بشكل مباشر، ورغم فتح تحقيق في حادثة فض الاعتصام برئاسة الخبير القانوني نبيل أديب، فإن النتائج لم تُسفر عن محاسبة أي طرف، ولم تُكشَف أيُّ تفاصيل حتى الآن.
وعلى الرغم من تكرار نفيه أي دور للقوات المسلحة في تلك الجريمة، كان البرهان يعلم أن فض الاعتصام قد غيّر صورته في أعين عدد كبير من السودانيين إلى الأبد، وأن الشعور الثقيل بأن الدم الذي سال تلك الليلة سيظل يطارده، مهما حاول تبريره تحت ذريعة الضرورات السياسية.
وبعد أربع سنوات من تلك الحادثة، ومع تبدل الأدوار ودخوله في مواجهة مسلحة مع قوات الدعم السريع، عاد البرهان ليعلن أن الأخيرة هي المسؤولة عن فض الاعتصام. هذا التصريح أشعل غضب السودانيين الذين كانت آلامهم لا تزال تتأجج تحت الرماد، واعتبره قانونيون مشاركةً منه في الجريمة، مؤكدين أنه كان يجب عليه، بحكم منصبه، اتخاذ الإجراءات المناسبة في ذلك الوقت بدلًا من الإدلاء بتصريحات متأخرة.
أعقبت فض الاعتصام محادثات وجهود وساطة قادتها إثيوبيا والاتحاد الأفريقي، وجرى الإعلان عن "الوثيقة الدستورية" وهي صيغة لتقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي والقوى المدنية، وفي مقدمتها "قوى الحرية والتغيير" وتشكل على إثر ذلك "مجلس السيادة الانتقالي"، وقوامه 11 عضوًا (5 عسكريين و5 مدنيين وعضو مدني يُتفق عليه)، وقد اتُّفق على استمراره فترة انتقالية مدتها 39 شهرًا، ونصت قواعد الاتفاق أيضًا على أنه خلال أول 21 شهرًا من الفترة المذكورة، يتم اختيار رئيس عسكري من قبل الجيش، يخلفه بعد ذلك مدة 18 شهرا رئيس مدني، على أن تُجرى الانتخابات بعد انقضاء الفترة المتفق عليها لتقاسم السلطة.
ونص الاتفاق أيضا على أن تتولى رئاسة الوزراء شخصية مستقلة ترشّحها قوى الحرية والتغيير، وأن يرشّح الجيش الوزراء الذين يقودون وزارتي الدفاع والداخلية، وبناءً على هذا الاتفاق أصبح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي وحميدتي نائبًا له -رغم أن الوثيقة لم تنص صراحة على ذلك- كما عُيِّن الاقتصادي عبد الله حمدوك رئيسًا لمجلس الوزراء.
كان هذا الترتيب نتاج توافق هشّ بين قوى متباينة المصالح؛ فمن جهة، مثّل البرهان المؤسسة العسكرية التقليدية، حاملًا إرث الجيش وهيبته وتصوراته لدور العسكر في حكم البلاد. ومن جهة أخرى مثّل حميدتي قوة صاعدة من قلب الهامش السوداني، فهو زعيم مليشيا قبلية تحوّلت إلى قوة شبه نظامية ذات موارد مالية ضخمة ونفوذ عسكري على الأرض.
الفصل الثالث: البرهان في غمار السياسة.. والتطبيع
خلال تلك الحقبة الانتقالية، وفي امتداد لجدلية الثنائيات الراسخة في تاريخ السودان، برزت ثنائية جديدة تمثلت في المكوّن المدني، ونواته تحالف "قوى الحرية والتغيير"، في مواجهة المكوّن العسكري الذي يضم الجيش وقوات الدعم السريع.
ورغم التوازن الذي سعت الوثيقة الدستورية إلى تحقيقه بين المكونين عبر تشكيل "مجلس السيادة الانتقالي"، أظهر المكوّن العسكري، بقيادة عبد الفتاح البرهان، جاهزية أكبر، وحضورًا أرسخ على المستويين الداخلي والخارجي، حيث أدّى البرهان دور الواجهة السياسية للدولة، مستحوذًا على المشهد السياسي باستقباله الزعماء الأجانب وقيادته اللقاءات الرسمية.
في المقابل جرى تهميش المكوّن المدني، ممثلًا في رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، بشكل لافت. ففي خطوة هدفت لاحتواء التحديات الاقتصادية الحادة، شُكّلت "لجنة الطوارئ الاقتصادية" برئاسة حميدتي، رغم افتقاره لخلفية اقتصادية، واكتفى الخبير الاقتصادي حمدوك نفسه بدور الرجل الثاني في اللجنة.
حينها بدا البرهان وحميدتي على قلب رجل واحد. فرغم اختلاف خلفيتيهما الاجتماعية والعسكرية، جمعتهما آنذاك غاية مشتركة هي الحفاظ على نفوذ الجيش والدعم السريع خلال الفترة الانتقالية ومنع انتقال السلطة كلّيًّا إلى المدنيين. في العلن، أظهر البرهان وحميدتي تماسكًا ووحدة صف واضحة خلال العامين التاليين لسقوط البشير.
وقف الرجلان معًا في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية التي واجهت الفترة الانتقالية، بدءًا من تمرد بعض وحدات جهاز المخابرات في يناير/كانون الثاني 2020 مرورًا بمحاولات انقلابية فاشلة، ووصولًا إلى توقيع اتفاق سلام جوبا مع عدد من الحركات المتمردة عام 2020، الذي همّش المدنيين تمامًا.

لكن خلف الأبواب المغلقة، بدأت بوادر التوتر بينهما تطفو شيئًا فشيئًا. فلكل منهما طموح سياسي مكتوم، وكل منهما يدرك ثقل الآخر وقوته. حميدتي الذي لم ينل حظًّا من التعليم الرسمي أو التدرج العسكري النظامي كان يعتمد على نفوذه الميداني وبعض علاقاته الإقليمية، وثروته (خاصة من مناجم الذهب) لبسط نفوذه، أما البرهان فكان يستند إلى شرعية الجيش النظامي واعتراف المجتمع الدولي بكونه واجهة للسلطة.
كذلك كانت الانتقادات قد بدأت في التصاعد من قبل المكوّن المدني لحاملي السلاح. فلم يكن الخوف من العسكريين محصورًا في استخدام العنف ضد المدنيين، بل تعداه إلى الشكوك حول نية المؤسسة العسكرية في تسليم السلطة، وهي شكوك ظهرت منذ الأسابيع الأولى للفترة الانتقالية. وقد تجسدت هذه الريبة في قيام عبد الله حمدوك في يناير/كانون الثاني 2020 بإرسال خطاب إلى الأمين العام للأمم المتحدة، من دون تنسيق مع المكوّن العسكري، يطلب فيه إرسال بعثة أممية لدعم عملية الانتقال.
فسر البرهان هذه الخطوة بأنها تجاوز لمجلس السيادة واستقواء بالأمم المتحدة في مواجهة المكون العسكري، ولكن رغم هذه المحاولات من قبل المدنيين لاكتساب "شرعية دولية" تكسبهم ثقلا موازنا لسلاح الجيش، كانت المحصلة هي أن نفوذ المجلس العسكري تزايد بمرور الوقت، فأصبح عبد الفتاح البرهان الفاعل الأكثر تأثيرًا في المعادلة السياسية.
استفاد البرهان من الأداء الضعيف لحكومة حمدوك الذي سعى -رغم التحديات الحرجة داخليًّا وخارجيًّا إضافة إلى جائحة كورونا وآثارها- إلى تنفيذ إصلاحات اقتصادية صارمة متوافقة مع أجندة صندوق النقد الدولي، شملت رفع الدعم عن الوقود، وتعويم العملة، ومحاولة فرض رقابة على الشركات التابعة للمؤسسات الأمنية. لكن هذه السياسات واجهت عوائق في بلد يعاني من هشاشة البنية التحتية وبعد ثورة غذّتها أزمة اقتصادية خانقة، أدت إلى تدهور معيشة المواطنين، وتصاعد الغضب الشعبي، وتسجيل معدلات تضخم تجاوزت 300%.
في ظل هذا المشهد الشعبي المتأزم، كانت جذوة الخلاف بين المدنيين والعسكريين لا تزال تتأجج، ومن الأمور الخلافية الرئيسية التي أجّجت التوتر بين المكوّنين قضية لجنة "إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال" التي تشكلت بموجب قانون أقرّه مجلس الوزراء لتفكيك نظام البشير، بقرار من البرهان في ديسمبر/كانون الأول 2019.
فقد انقسم أعضاء اللجنة، ثم توسّعت الانقسامات لتصل إلى الشارع، وخرجت مظاهرات مؤيدة لكل طرف من أطراف السلطة. وعززت قوة المكوّن العسكري الانقسامات داخل القوى المدنية نفسها، وتفاقمت الاحتجاجات المناطقية ضد اتفاق جوبا وبنود الوثيقة الدستورية، كما حدث في شرق السودان، الذي يُعتبر شريانًا حيويًّا تأتي عبره 70% من احتياجات البلاد المستوردة. في ظل هذا كله، ارتفعت وتيرة الانتقادات لحكومة حمدوك التي اتهمت بضعف الأداء والعجز عن تحقيق إنجازات ملموسة على صعيد الأزمات المعيشية اليومية للمواطنين.
وهكذا، وبين تمدد النفوذ السياسي للعسكريين وتفكك الحاضنة المدنية، أعاد البرهان ترتيب أوراق السلطة، مستندًا إلى نفوذ متعاظم لم يعد مقتصرًا على المشهد المحلي، بل بدأ يتكئ أكثر فأكثر على علاقاته الإقليمية والدولية. لقد أدرك البرهان ببراعة الميزات التي يمكن أن يمنحها له موقع السودان الجيوسياسي الفريد عند تقاطع أربع مناطق حيوية: القرن الأفريقي، وشمال أفريقيا، ومنطقة الساحل، والخليج العربي عبر البحر الأحمر، فضلًا عن ثرواته الطبيعية والاقتصادية الواعدة.
وباعتبارها طرفًا مركزيًّا في الحكم على مدار تاريخ السودان الحديث، أقامت القوات المسلحة السودانية علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع مجموعة متنوعة من الحكومات والجماعات المسلحة إقليميًّا ودوليًّا، وهو النهج الذي سار عليه البرهان خطوة بخطوة. فبعد أقل من شهر من توليه رئاسة المجلس العسكري خلفًا لابن عوف، بدأ البرهان زيارات لعواصم إقليمية مؤثرة مثل القاهرة وأنقرة، حيث أدى التحية العسكرية للرئيس السيسي خلال زيارته الأولى، وفي الثانية قبل بندقية صيد متطورة هديةً من الأتراك الذين علموا بشغفه بالصيد والرماية. وشملت زياراته أيضًا "أبو ظبي" والرياض وأديس أبابا وأنجامينا وأسمرا.

كما سعى إلى تقوية علاقته بالولايات المتحدة مستثمرًا ورقة تطبيع العلاقات مع إسرائيل (أثناء ولاية ترامب الأولى)، وهي خطوة بدأت خلف الكواليس قبل أن تخرج تدريجيًّا إلى العلن.
ففي مايو/أيار عام 2020، حطت طائرة صغيرة في مطار الخرطوم قادمة من مطار بن غوريون الإسرائيلي. كانت هذه الطائرة تقل فريقا طبيا مجهزا وظيفته معالجة ونقل إحدى أهم الشخصيات المقربة من دائرة القرار السودانية، هي الدبلوماسية السودانية "نجوى قدح الدم"، المستشارة السابقة لرئيس أوغندا يوري موسيفيني التي كانت مستشارة للبرهان، على إثر إصابتها بفيروس كورونا. لكن قصة الدبلوماسية السودانية انتهت بالوفاة في الخرطوم قبل أن يتمكن الفريق الطبي الإسرائيلي من نقلها.
لم يكن من المفترض أن تخرج هذه الرحلة عن سريتها التامة، إلا أن مسارها الغريب من الخرطوم إلى تل أبيب جعلها عرضة للتتبع فانكشفت بذلك هذه الزيارة التي جاءت بعد 3 أشهر من لقاء سري جمع عبد الفتاح البرهان وبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي في مدينة عنتيبي الأوغندية، وهو لقاء لم تصدر عنه أيّ بلاغات ولا بيانات ولا صور رسمية تخلد هذه اللحظة "التاريخية".
ولكن بعد خروج أخبار هذا اللقاء السري إلى العلن، مارست إسرائيل هوايتها في التعبير عن سعادتها علنًا بهذه العلاقة التي كان من المفترض أن تكون سرية معترفة بحدوث اللقاء في بيان رسمي صادر عن رئاسة الوزراء الإسرائيلية. في المقابل خلفت هذه الأنباء ردودًا متباينة في الداخل السوداني، حيث ارتفعت الأصوات التي تندد بلقاء كهذا بقرار أحادي من البرهان الذي لم يستشر فيه أحدا بما في ذلك رئيس الحكومة الانتقالية آنذاك عبد الله حمدوك.
في نفس السياق ندد فيصل محمد صالح وزير الإعلام حينها بما سمّاه "التطبيع مع دولة الاحتلال إن هي لم تعترف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني". ورغم كل هذه المعارضة والتوجس، خرج البرهان للتأكيد على أن موقف بلاده لم يتغير من إسرائيل ولكنها مدت معها بعض العلاقات تحت ضرورة "الأمن والمصالح الوطنية" ليس إلا.
ستمر الشهور، فيخرج نتنياهو مجددا، ويؤكد لحكومته وشعبه أنه هاتف البرهان، وتحدثا حول عدة أمور، وهنأه بمناسبة عيد الفطر، وعبر له عن رغبته في تعميق العلاقات السودانية الإسرائيلية، ثم أعلن الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020 توصُّل السودان وإسرائيل إلى اتفاق سلام، وأرجع البرهان توقيع الاتفاق مع إسرائيل إلى "اقتناع الحكومة بأهمية نشر قيم التسامح والتعايش بين الشعوب بمختلف أديانهم وأعراقهم".
كما أعرب وزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو عن شكره للبرهان "لقيادته لتطبيع العلاقات مع إسرائيل"، وكأثر فوري لتطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية المُفترض.
رُفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية في 14 ديسمبر/كانون الأول 2020، بعدما مكث بها مدة تقارب 3 عقود، وبدأت الرحلات الجوية بين الخرطوم وتل أبيب تظهر على الرادارات أكثر من مرة، فيخرج البرهان لتبرير ذلك بالتأكيد على أن هذه الزيارات "أمنية وعسكرية فقط" ولا شأن لها بكل ما هو سياسي، ضاربا المثل بإحدى "فواكه التطبيع" وهي إلقاء السودان القبض على مجموعة إرهابية كانت تهدد أمن البلاد والمنطقة وكل ذلك بمساعدة من الحليف الجديد في تل أبيب.
وقد قال أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك إيلي كوهين بعد زيارته الخرطوم في فبراير/شباط 2023 ولقائه مع البرهان: "نعود من الخرطوم بنعم 3 مرات، للسلام وللمفاوضات وللاعتراف بإسرائيل" في إشارة معاكسة واضحة للقمة العربية التي عقدت في السودان بعد نكسة يونيو 67 التي اتفقت فيها الدول العربية على شعار اللاءات الثلاثة: "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل" حيث عرفت الخرطوم بعد هذا التاريخ بعاصمة "اللاءات الثلاثة".
هكذا على الصعيد الدولي، بدا البرهان في سنواته الأولى من المرحلة الانتقالية نموذجًا للرجل البراغماتي القابل للتفاهم، خاصة في أعين واشنطن وتل أبيب. لكن صورته تراجعت بعد انقلاب أكتوبر، إذ وُصف في الإعلام الغربي بأنه انقلب على الديمقراطية الناشئة.
ومع اندلاع الحرب، ظل الغرب حذرًا، بينما فضّلت عواصم عربية رئيسية التعامل معه بوصفه ضامنًا للاستقرار أكثر من كونه مشروعًا ديمقراطيًّا خالصًا.
الفصل الرابع: نقطة اللاعودة
بالعودة من مسارات الخارج إلى قلب العاصمة السودانية، الخرطوم، وتحديدًا إلى نقطة التقاء النيلين الأبيض والأزرق عند المقرن، حيث تمتد الأرض الخصبة وتتجلى فيها رمزية السيادة. هناك، حيث تتجاور جغرافيا مؤسسات الحكم، مجلس السيادة ومجلس الوزراء، بدت المسافة السياسية بين ساكني المقرين أوسع من مجرى النيل نفسه.
ففي الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول 2021، أعلنت السلطات السودانية إحباط محاولة انقلابية قادها اللواء عبد الباقي بكراوي، وهو قائد ثانٍ لسلاح المدرعات، رفقة نحو عشرين ضابطًا وضابط صف، تمكنوا مؤقتًا من السيطرة على مقر سلاح المدرعات قبل أن يتم اعتقالهم.
خرج رئيس الوزراء عبد الله حمدوك آنذاك ليعلن أن المحاولة دُبِّرت من داخل المؤسسة العسكرية وخارجها، واعتبرها محاولة صريحة لعرقلة التحول الديمقراطي. في المقابل، شن الفريق أول عبد الفتاح البرهان هجوما على القوى المدنية، متهمًا إياها بالانشغال بـ"الصراع على المناصب والسلطة"، ومشددًا على أن الجيش لن يسمح لطرف واحد بالتحكم في مصير البلاد. ونسج نائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) على منواله، فحمّل المدنيين مسؤولية الفشل وتعثر الانتقال.
وعلى بُعد خطوات من مقري المجلسين، عند أسوار القصر الجمهوري، تجمّعت مجموعات مدنية وحزبية فيما عُرف لاحقًا بـ"اعتصام القصر"، الذي قادته الكتلة الديمقراطية المنشقة عن تحالف قوى الحرية والتغيير، وضمت في صفوفها عددًا من الحركات "الدارفورية" الموقعة على اتفاق جوبا للسلام.
جاء الاعتصام في سياق تفاقم الخلاف بين شريكي السلطة، المدني والعسكري، وهو الخلاف الذي تمدد من أروقة الحكم إلى الشارع، وانعكس في مسيرات شعبية حملت شعار "مواكب الطوفان"، دعت إلى تثبيت مسار الثورة وتحصين الانتقال المدني من أي محاولات انقلابية.
تمدد الاعتصام حتى كاد يبتلع قلب الخرطوم التجاري، قاطعًا الطرق إلى وزارات ومقار حكومية حيوية، وسط مطالب بإقالة حكومة حمدوك، التي اتُّهمت بالفشل في تحسين الأوضاع المعيشية، كما وُجهت أصابع الاتهام إلى المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير بتحميله مسؤولية تفكك التحالف المدني، بعد أن كان يضم أكثر من سبعين كيانًا سياسيًّا، نتيجة ما اعتُبر سعيًا منه للهيمنة والانفراد بالسلطة.
في المقابل، اتهم جناح المجلس المركزي المعتصمين بأنهم واجهة للإسلاميين وفلول النظام السابق وقلل من شأن اعتصامهم مسميا إياه "اعتصام الموز" في تلميح ساخر. لكن خلف هذا الوصف، كان يقف فاعلون ذوو ثقل في المشهد مثل مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، وجبريل إبراهيم، وزير المالية، والسياسي الاتحادي التوم هجو، وعلي عسكوري، الناطق باسم "ميثاق التوافق الوطني".
كان من الواضح أن الاستقطاب السياسي بلغ مستويات حرجة، لذا وفي محاولة لاحتواء الأزمة، طرح حمدوك خريطة طريق من عشرة بنود، مشددًا على أن الشعب دفع ثمنًا باهظًا من أجل الإصلاحات، ويستحق رؤية نتائجها.

بدا أن حمدوك وجناحه المدني يعولون على دعم المجتمع الدولي كرافعة أساسية في معادلة الحكم، وهو ما تجلى في زيارة المبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، الذي صرّح بعد لقائه البرهان أنه لا يرى أي نية لدى رئيس المجلس العسكري للاستحواذ على السلطة.
لكن ما إن أقلعت طائرة فيلتمان من مطار الخرطوم في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، حتى فاجأ البرهان الجميع بإعلانه حل الحكومة واعتقال حمدوك وعدد من الوزراء، وإقالة المكون المدني في مجلس السيادة، وفرض حالة الطوارئ وتعليق بعض بنود الوثيقة الدستورية. برر البرهان هذه الخطوة بأنها "تصحيح لمسار الثورة"، في حين رآها خصومه انقلابًا عسكريًّا مكتمل الأركان على الثورة التي أطاحت بالبشير.
لكن في شوارع السودان، كان المشهد رافضًا تمامًا لرواية البرهان. خرجت حشود ضخمة من المتظاهرين في الخرطوم ومدن أخرى تندد بالانقلاب وتطالب بعودة الحكم المدني. وقتها علت الهتافات المنددة بحكم العسكر، وأعلن الثوار رفضهم لأي شراكة أو تفاوض مع المجلس العسكري الجديد، مرددين شعارات مثل "برهان ما تحكمنا" و"العسكر للثكنات".
واتخذت الحركة الاحتجاجية شعارًا جامعًا: "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية" تعبيرًا عن رفض أي حل وسط مع الانقلابيين. ورغم القمع العنيف الذي واجهت به القوات الأمنية تلك الاحتجاجات، بما فيه استخدام الرصاص الحي وسقوط عشرات الشهداء في الأشهر التالية، ظل الحراك الشعبي مستمرًّا بوتيرة مظاهرات أسبوعية تقريبًا تطالب بإنهاء الحكم العسكري.
لم تمضِ أسابيع حتى أعيد حمدوك إلى منصبه، تحت ضغوط دولية وشعبية، بعد توقيعه اتفاقًا سياسيًّا مع البرهان، تضمن العودة إلى مسار الانتقال وبدء مشاورات جديدة. غير أن هذا الاتفاق قوبل برفض واسع من المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين وقوى أخرى وقطاعات من المحتجين.
وتداعت الأمور سريعا منذ تلك اللحظة وسرعان ما بدا واضحا أن العلاقة بين العسكريين والمدنيين في السلطة بلغت نقطة اللاعودة. وبحلول يناير/كانون الثاني 2022، أعلن حمدوك استقالته رسميًّا عبر خطاب تلفزيوني، أقر فيه بفشله في الوصول إلى توافق سياسي، داعيًا إلى حوار سوداني شامل يرسم خريطة طريق جديدة. وكانت استقالته بمثابة إعلان وفاة رسمي للمرحلة الانتقالية التي قامت على الشراكة بين المدنيين والعسكريين.
ومع غياب القيادة المدنية عن المشهد، تعمقت الانقسامات السياسية، وتعددت المبادرات المحلية والإقليمية والدولية لرأب الصدع، إلى أن أُعلن في ديسمبر/كانون الأول 2022 عن توقيع "الاتفاق الإطاري" بين الجيش وقوات الدعم السريع من جهة، والمدنيين ممثلين في المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير من جهة أخرى. الاتفاق، الذي حظي بدعم دولي واسع، نص على مرحلة انتقالية جديدة مدتها عامان، تبدأ بتعيين رئيس وزراء مدني، على أن تُترك قضايا جوهرية مثل توحيد الجيش وتفاصيل الحكم لمشاورات لاحقة.
لكن الاتفاق لم يحقق الإجماع المنشود، إذ عارضته أطراف مدنية فاعلة إلى جانب حركات مسلحة شاركت في اتفاق جوبا، مما عمق هشاشة المشهد السياسي وأبقى جذور الصراع متأججة، في انتظار الانفجار القادم.
الفصل الخامس: طريق لا تتسع لرجلين
كانت تلك هي اللحظة التي تفجر فيها الخلاف الأهم والأكثر دموية منذ الإطاحة بالبشير. لم يكن الصراع بين الجنرال البرهان ونائبه حميدتي مجرد خلاف عرضي على تفاصيل السلطة، بل كان في جوهره تنازعًا على الوجود ذاته داخل تركيبة الحكم الهشة. في الظاهر، كان الخلاف متدثرًا برداء التباين مع المكون المدني، لكن الحقيقة التي تكشفت تباعًا هي أن السودان لم يعد يحتمل الرجلين معًا.
ومع ذلك، لم يتردد البرهان وحميدتي في التكاتف ضد المكوّن المدني كلما شعرا أن مطالب المدنيين تهدد مصالح المؤسسة العسكرية. كان أكبر اختبار لذلك التعاون، أو قل التنافس، هو ملف دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وهو مطلب رفعته قوى مدنية لضمان تفكيك القوى العسكرية الموازية. لكن حميدتي لم يكن مستعدًّا لخسارة استقلال قوته لصالح جنرالات الجيش، ولم يكن البرهان مستعدًّا لخسارة نفوذ الجيش في البلاد.
فالانتقال إلى حكم مدني فعلي يعني تقليص نفوذ الجيش وربما تهديد إمبراطوريته الاقتصادية الواسعة، وكذلك احتمال فتح ملفات الانتهاكات القديمة ومساءلة المسؤولين عنها. وقد كشف تقرير صدر عام 2022 أن الجيش وقوات الأمن يسيطران على شبكة شاسعة من الشركات، تُقدّر بأكثر من 400 كيان تجاري وصناعي يمتد من الزراعة إلى البنوك، مما يوضح ضخامة المصالح المالية للعسكر في السودان.
وكانت لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد التي شكّلتها الحكومة الانتقالية المدنية قبل ذلك قد شرعت بالفعل في مصادرة أصول وشركات تابعة لرموز نظام البشير، وهي إجراءات ضربت في صميم شبكات المحسوبية العسكرية، مما اعتبره مراقبون سببًا في تسريع قرار البرهان بالانقلاب على شركائه المدنيين. لكن في معظم الأوقات ظل البرهان حريصًا على توازن دقيق: فهو من جهة يطمئن حميدتي بأن زمن الدمج لم يحن بعد وبأن الأمر سيتطلب وقتًا وترتيبات، ومن جهة أخرى يطمئن حلفاءه في الجيش التقليدي بأن الدعم السريع باقٍ تحت السيطرة.
بقيت العلاقة بين البرهان وحميدتي أشبه بتحالف اضطراري فرضته الظروف، لكن الحقيقة كانت أبعد ما يكون عن ذلك. فكل منهما ينتمي لعالم مختلف تمامًا: البرهان ابن المؤسسة العسكرية المركزية ومن خلفية نيلية تقليدية، وحميدتي من أصول قبلية بدوية من غرب السودان، صنع نفسه بنفسه عبر القوة والنفوذ الاقتصادي. وهكذا تداخل الشخصي بالعام في صراعهما؛ فخصومتهما بدت أيضًا انعكاسًا لصراع متجذر بين مركز السودان وأطرافه، بين نخبة نيلية حكمت تاريخيًّا ومجموعات قبلية عبرت دائما عن مظالمها من الحرمان والتهميش.

تجلى ذلك بوضوح في أغسطس/آب 2022، عندما خرج حميدتي عن صمته في مقابلة مثيرة للجدل مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، أقر فيها بندمه على مشاركته في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وقال بصراحة لافتة إن ذلك الانقلاب (ضد المكون المدني ورئيس الوزراء حمدوك) لم يقد البلاد إلا إلى مزيد من التدهور. ولدى سؤاله عن نياته السياسية، قال: "ليس لدي طموح سياسي، لكن الواقع فرض عليّ أن أكون موجودًا، وهذه حقيقة يجب أن أقولها. وإذا أتى أناس لسد هذا الفراغ، وهم على قدر المسؤولية، بالتأكيد سنساعدهم لكي لا ينهار بلدنا".
ما لبث التوتر أن خرج إلى العلن، بدءًا بالملاسنات والتصريحات الإعلامية المتبادلة، ثم تطور إلى مستويات أشد خطورة. ففي فبراير/شباط 2023، عاد حميدتي بخطاب متلفز جدّد فيه انتقاده للإطاحة بحمدوك، موجهًا رسائل ناعمة نحو المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، فيما بدا أنه بداية تقارب جديد بين الطرفين. دعا حميدتي، في ذلك الخطاب، إلى ضرورة إخراج الجيش من معادلات السياسة والاقتصاد، أما البرهان فقد ظل متمسكًا بروايته القائلة إن التحرك في 25 أكتوبر كان ضرورة لـ"تصحيح مسار الثورة".
بالتأكيد، لم يكن البرهان ينظر بعين الرضا إلى تحركات نائبه. فالرجل الذي اعتاد أن يكون ظله في كل الخطوات صار فجأة يغرد بخطاب مختلف. وبدأت التقارير الاستخبارية تتحدث عن أنشطة وتحركات منفردة لقوات الدعم السريع خارج إطار أوامر القيادة العامة. زار حميدتي عدة دول بشكل غير معلن، وربطت تحليلات بين تقاربه وبعض القوى الإقليمية التي قد لا تتطابق أجندتها تمامًا مع رؤية البرهان وحلفائه التقليديين مثل مصر.
لم تكن هذه التصريحات سوى بداية لإعلان القطيعة بين الجنرالين. فمع توقيع "الاتفاق الإطاري" في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، طفت الخلافات الحقيقية إلى السطح، لا سيما تلك المتعلقة بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية ودمج قوات الدعم السريع داخل الجيش.
فقد أصرّ الجيش بقيادة البرهان على أن يتم الدمج خلال عامين فقط، في حين اشترط حميدتي جدولًا زمنيًّا يمتد إلى عشر سنوات، على أن تظل قواته خلال تلك الفترة تحت إشراف رئيس مجلس الوزراء المدني لا القيادة العامة للقوات المسلحة. كان ذلك جوهر الصدام، وجذر الشقاق، والنقطة التي دُق فيها أول إسفين حاد في علاقة شراكة بدت في ظاهرها متماسكة، لكنها كانت تنهار بصمت.
لم يكن الصراع بين حميدتي والبرهان يدور فقط حول من يملك السلاح الأكثر تطورًا أو القوة العسكرية الكبرى، بل تعدى ذلك إلى سباق للسيطرة على مؤسسات الدولة والمشهد المدني برمته. ومع اقتراب الدعم السريع من استكمال حلقات تسليحه النوعي، احتدم التنافس على النفوذ، ووصل حد إشعال معارك على النفوذ ضمن صفوف الخدمة المدنية. ثم ازداد احتقان حميدتي مع توالي قرارات المحكمة العليا التي أعادت بعض المحسوبين على نظام البشير إلى مواقعهم، وأعادت إليهم مشروعاتهم وأصولهم وحساباتهم.
ووفقًا لموقع "سودان تريبيون"، فإن مستشارًا سابقًا لحميدتي وصف هذه القرارات بأنها تهديد مباشر لطموحات قائد الدعم السريع، خصوصًا في ظل الكراهية المتبادلة بينه وبين الإسلاميين. فهؤلاء -كما يشير المستشار- يرون في حميدتي خصمًا يجب تحجيمه، وربما القضاء عليه سياسيًّا.
وكشف ذات الموقع أيضًا في تقرير متزامن أن حميدتي سعى، في المقابل، إلى فرض سيطرته على القطاعات الحيوية في الدولة من خلال تشكيل فريق مدني يضم ما بين خمسة وثمانية آلاف موظف، انتشروا في قطاعات التجارة والبنوك والإعلام، في محاولة لبناء شبكة نفوذ موازية في قلب الجهاز البيروقراطي السوداني.
مرّت أربعة أشهر على توقيع الاتفاق الإطاري دون أن يحرز أي تقدم ملموس في تنفيذ بنوده، فبدت المواجهة المسلحة وكأنها استحقاق مؤجل، لا مفر منه. وفي ليلة خُيّل فيها أن الوساطة الأممية قد تُثمر، كان مبعوثو الأمم المتحدة يتناولون عشاءهم مع "الجنرالين" في محاولة أخيرة لثنيهما عن الانزلاق إلى هاوية الحرب. لكن فجر الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023 حمل ما كان يخشاه الجميع: اشتعلت المعارك في قلب الخرطوم، وانفجرت أولى طلقات الرصاص في نزاع دموي، اتهم فيه كل طرف الآخر بإشعال الفتيل، وبدأت البلاد تنحدر مجددا نحو الحرب، بكل ما تحمله من مآسٍ وفظائع.
يمكننا وضع عناوين كثيرة للصراع بين الرجلين، ربما أراد كل منهما حكما عسكريا وفق رؤيته: كان البرهان ابن المؤسسة العسكرية النظامية يحكم امتدادا لإرث طويل لحكم الجيش وما فتئ يرى في حميدتي قائدا لمليشيا خدمته الظروف وليس عسكريا حقيقيا فضلا عن أن يكون رجل دولة. من جانبه لم يكن لحميدتي أن يفوت الفراغ الذي تركه رحيل البشير خاصة وهو يملك سلطة عسكرية تناهز سلطة الجيش ويدير إمبراطورية اقتصادية ضخمة، وفي ظل إرثه الطويل مع حروب العصابات، لم يمانع الرجل في إشعال القتال مجددا.
الفصل السادس: حكاية لم تنته بعد
في صباح السبت، الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023، اندلعت شرارة الحرب التي لطالما بدت وشيكة. وسرعان ما رجحت الكفة، في بداياتها، لصالح قوات الدعم السريع التي باغتت الجيش بضربات سريعة ومحكمة بفضل تمركزها أصلا في الكثير من المواقع الحساسة. ففي غضون ساعات، فرضت قوات حميدتي سيطرتها على مطار مروي وقاعدته الجوية، ثم على مطار الخرطوم، وتلاه القصر الجمهوري. أما مقر القيادة العامة للجيش، فتعرض لهجوم عنيف أشعل النيران فيه بحلول صباح الأحد، في مشهد حمل رمزية انهيار رمز السلطة العسكرية.
كاد المشهد يكون انقلابًا كاملًا وناجحًا، لولا تمكن البرهان من الإفلات من قبضة الدعم السريع بصعوبة. ويروي بعض المطلعين كيف أن البرهان قاتل برداء النوم بعد أن أُخذ على حين غرة. ووفق تسريبات ومصادر صحفية سودانية، قضى البرهان الأيام الأولى في موقع محصن داخل القيادة العامة للجيش قرب المطار، يدير المعركة من غرفة عمليات تحت الحصار.
وبحلول اليوم الخامس للقتال ظهر تسجيل مصور للبرهان من داخل مقر القيادة محاطًا بالجنود، أكد فيه تماسك الجيش وعزمه على دحر "المليشيا المتمردة". وقال حينها بحزم: "لا خيار سوى الحل العسكري"، معلنًا بوضوح إغلاق باب الوساطات.
رغم عنصر المفاجأة، امتلك الجيش ورقة التفوق الجوي، وسارع إلى استخدامها. فحلّقت الطائرات الحربية فوق الخرطوم، وشنت غارات مركّزة استهدفت تجمعات الدعم السريع في قلب الأحياء السكنية.
خلال أسابيع، تمددت رقعة القتال من العاصمة إلى إقليم دارفور الملتهب أصلًا، وولاية كردفان في الوسط، وحتى بعض أطراف شرق السودان. خسر البرهان السيطرة على أجزاء كبيرة من الخرطوم التي تحصنت فيها قوات الدعم السريع بين الأحياء المدنية.
استفادت قوات حميدتي من حالة الارتباك داخل الجيش، وعدم جاهزية الوحدات النظامية للرد السريع، فحققت تقدمًا ملموسًا في الأسابيع الأولى. لكن خطته الأساسية، التي هدفت إلى تحييد القيادة العسكرية، سرعان ما تعثرت. فقد نجح البرهان -بعد حصار دام خمسة أشهر داخل القيادة- في الخروج والتوجه إلى بورتسودان، التي أعلنها لاحقًا عاصمةً مؤقتة للبلاد.
وكان أول ظهور علني للبرهان بعد شهر من بدء الحرب، حين تجول بين جنوده في المقر الرئيسي لقيادة الجيش وسط الخرطوم، مرتديًا الزي العسكري ويحمل بندقية على كتفه. بدا البرهان متأثرًا بالإرهاق الشديد، لكن ملامح وجهه حملت نوعًا من الثبات والصمود في ظل الظروف القاسية التي مر بها. وقد أشيع أنه رفض عروض الإجلاء طوال فترة الحصار، وكانت عيون المراقبين تتساءل عن مدى تأثير تلك التجربة في موقفه السياسي في الأيام التالية.

هناك، في بورتسودان، أقام الجنرال مقرًّا مؤقتًا للحكومة وسارع إلى القيام بجولات خارجية رغم ضراوة الحرب، فزار مصر والتقى الرئيس عبد الفتاح السيسي في أغسطس/آب 2023، ثم الإمارات وجنوب السودان وتشاد، في حملة دبلوماسية تهدف لحشد الدعم ضد تمرد حميدتي.
المفارقة أن البرهان قرر للحفاظ على صموده أن يتحالف مع قوى كانت إلى وقت قريب خصومًا للأجهزة الأمنية. أُفرج البرهان عن قيادات من نظام البشير كانوا في السجون منذ 2019، فعادت بعض الشخصيات إلى الواجهة مجددا. كذلك انخرطت مجموعات مسلحة ذات ميول إسلامية في القتال إلى جانب الجيش ضد الدعم السريع، وشُكّلت لجان دفاع محلية لتسليح المدنيين الموالين للجيش في الأحياء، مستلهمة تكتيكات الدفاع الشعبي إبان حكم البشير.
كان ذلك تطورًا مثيرًا للمفارقة: فبعد أن كان البرهان يُنظر إليه عام 2019 على أنه جنرال محترف غير مؤدلج، وحليف للقوى المناهضة للإسلاميين، ها هو يجد نفسه في 2023 مضطرًّا للاستعانة بهؤلاء الإسلاميين حفاظًا على بقاء المؤسسة العسكرية التي يقودها.
كذلك لم يغب الدور الخارجي في الحرب، إذ سرعان ما انخرطت قوى إقليمية في دعم طرفي الصراع بصورة غير مباشرة. وبعد ثمانية أشهر من القتال، ظهر البرهان مجددًا بصورة أكثر قوة، مستعيدًا لياقته وعافيته، وسط حشد من الجنود والضباط، نافيًا تمامًا الشائعات التي كانت تشير إلى اختبائه في بدروم القيادة العامة خلال الأيام الأولى من الحرب، ومؤكدًا أنه قاتل جنبًا إلى جنب مع جنوده، متحديًا حميدتي أن يظهر مثله في الميدان. كما وجه انتقادات حادة إلى القوى السياسية التي أظهرت ميلًا نحو قوات الدعم السريع، مذكرًا بالانتهاكات التي ارتكبتها هذه القوات ضد المدنيين، والتي بدأت تتكشف للعلن.
" frameborder="0">
لكن السنة الأولى من الحرب حملت للبرهان أخبارًا سيئة، ليس فقط على الجانب الميداني، بل أيضًا على المستوى العائلي والشخصي، مع وفاة نجله محمد في مايو/أيار 2024 متأثرًا بإصابته في حادث مروري وقع في أنقرة.
على الجهة المقابلة، وإزاء فشل محاولاته الأولى، تبنّى حميدتي خطة بديلة تركزت على السيطرة الميدانية على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي، مع التركيز على عزل القيادة العسكرية في بورتسودان تمهيدًا لإسقاطها. وفي هذا الإطار، تعرض البرهان لمحاولة اغتيال حين استُهدفت قاعدة بشرق السودان أثناء زيارته لمعهد المشاة بولاية البحر الأحمر.
كان البرهان يشهد حينها تخريج الدفعة 68 من الكلية الحربية، والدفعتين 20 و23 من الكلية الجوية والأكاديمية البحرية. وبعد الهجوم، أفادت قناة "العربية" بأن البرهان نجا من الاستهداف، مؤكدة أنه بخير رغم إصابة عدد من مرافقيه. كما أصدر الجيش بيانًا عبر منصة "إكس" أكد فيه تصدي الدفاعات الجوية لمحاولتين بالطائرات المسيّرة استهدفتا موقع الاحتفال، مما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة آخرين.
ميدانيًّا، حققت قوات الدعم السريع تقدمًا ملحوظًا خلال العام الأول من الحرب، حيث تمكنت من السيطرة على جميع ولايات دارفور باستثناء الفاشر، التي خضعت لحصار شديد. وبنهاية العام الأول، أصبح الجيش يسيطر على خمس أو ست ولايات فقط من أصل ثماني عشرة، وكانت قواته محاصرة في العديد من المواقع.
لكن، وبعد ثلاثة وعشرين شهرًا من اندلاع الحرب، جاءت اللحظة المفصلية للتحول. ففي 21 مارس/آذار 2025 استعادت القوات المسلحة السودانية القصر الجمهوري، وتلا ذلك إعلانها السيطرة الكاملة على الخرطوم في 26 مارس/آذار. حيث وقف الفريق أول عبد الفتاح البرهان وسط القصر الجمهوري المحطم هاتفًا: "الآن الخرطوم حرة"، في مشهد رمزي تتويجًا لحملة عسكرية طويلة.
بدأ ردّ الجيش السوداني يتبلور أواخر سبتمبر/أيلول 2024، عندما نجحت القوات البرية في تنفيذ عمليات عبور حاسمة عبر ثلاثة جسور تربط أم درمان بمدينتي الخرطوم والخرطوم بحري، مما مهد الطريق لسلسلة من الهجمات المركزة على معاقل قوات الدعم السريع في العاصمة المثلثة. وسرعان ما حقق الجيش تقدمًا لافتًا، باستعادته جبل مويه الإستراتيجي، الذي يشرف على طرق الإمداد الحيوية، تلتها استعادة مدينتي سنار ومدني، مما اضطر قوات حميدتي إلى التراجع وفقدان مواقع حيوية في قلب السودان.
بالتزامن مع هذا التقدم العسكري، وفي استعادة لرمزية الدقة في التصويب، قام عبد الفتاح البرهان بزيارة لمعسكر القوات الخاصة، حيث استعرض مهاراته في الرماية مجددًا، مصيبًا جميع الأهداف بدقة لافتة وسط تصفيق الجنود والضباط. كان ذلك المشهد رسالة غير معلنة، تؤكد أن القائد الذي خاض معاركه الأولى في ساحات التدريب لا يزال يحتفظ بروحه القتالية رغم تبدل خرائط المعارك واتساع رقعتها.

ومع تصاعد الهجوم، تمكّنت القوات المسلحة من كسر حصار قواعدها، وقطعت خطوط الإمداد عن قوات الدعم السريع، لتصبح الأخيرة محاصرة في أجزاء من الخرطوم، بعد أن فقدت زمام المبادرة. وبشكل عام، منذ بدء الهجوم، استعادت القوات المسلحة السودانية وحلفاؤها أكثر من 430 موقعًا في جميع أنحاء وسط وجنوب السودان وفقا لـ"ACLED" وهي منظمة تحليل بيانات مواقع وأحداث النزاع المسلح في العالم.
وفي حين أدّت التحالفات الإقليمية الجديدة للبرهان دورًا محوريًّا في تعزيز قدرات الجيش من حيث الإمداد والتسليح، فإن الطرف المقابل -قوات الدعم السريع- فقد تدريجيًّا أي حاضنة شعبية لازمة لاستمرار تمرده، نتيجة للانتهاكات الواسعة التي مارسها ضد المدنيين في مناطق سيطرته. وزاد من هذا التآكل الشعبي غياب مشروع سياسي جامع أو خطاب مقنع يمكن لحميدتي من خلاله مخاطبة الشارع السوداني وإقناعه بشرعية مشروعه. وبهذا، ترافق التقدم الميداني للجيش مع تقهقر سياسي وشعبي واضح في صفوف قوات الدعم السريع.
ومع هذا التراجع، أدّت ثلاثة عوامل داخلية حاسمة إلى ترجيح كفة القوات المسلحة: فقد أطلق الجيش عمليات تعبئة واسعة لسدّ النقص في القوى البشرية، وفتح باب التطوع، وأعاد بعض وحداته التكتيكية، بما في ذلك عناصر من جهاز الأمن والمخابرات السابق. وبالتزامن، تغير موقف الحياد الذي التزمته بعض الحركات المسلحة، فأعلنت حركتا تحرير السودان (مناوي) والعدل والمساواة (جبريل إبراهيم) دعمهما الصريح للجيش، مما غيّر المعادلة في دارفور.
وأخيرا، تفككت قوات الدعم السريع من الداخل، مع انشقاق شخصيات وازنة، أبرزهم أبو عاقلة كيكل قائد قوات "درع السودان" في الجزيرة، وموسى هلال، الزعيم القبلي المؤثر في الرزيقات وابن عم حميدتي، الذي أعلن انحيازه إلى الجيش.
ومع إحكام الجيش سيطرته على الوسط والشرق، بقيت مناطق من كردفان بؤرًا ساخنة، في حين ركزت قوات الدعم السريع تمركزها غربًا، جاعلةً من السيطرة على الفاشر معركة مصيرية لإنقاذ ما بقي من مشروعها العسكري حيث ظهر القائد الثاني للدعم السريع عبد الرحيم دقلو، شقيق حميدتي، في الميدان بقيادة العمليات في دارفور، مستعيدًا في أذهان البعض مشهدًا مغايرًا يعود إلى نحو خمس سنوات سابقة، حين تفوق البرهان على عبد الرحيم خلال مسابقة في حفل ختام مهرجان للرماية أقيم في "الأبيض" عاصمة ولاية شمال كردفان، حيث أصاب البرهان 17 هدفًا مقابل ثلاثة فقط لعبد الرحيم.
أما حميدتي، فواصل خطابه عبر الوسائط دون الظهور الميداني وأطلق في 16 أبريل/نيسان بيانًا عبر "تلغرام" أعلن فيه تشكيل "حكومة السلام والوحدة" التي وصفها بأنها "تحالف مدني واسع يمثل الوجه الحقيقي للسودان مشيرا إلى تشكيل مجلس رئاسي مكون من 15 عضوا يختارون من جميع الأقاليم على حد وصفه.
في الجانب المقابل أكمل عبد الفتاح البرهان ستّ سنواتٍ في الحكم منذ الإطاحة بعمر البشير، وأجرى مؤخرًا تعديلًا على الوثيقة الدستورية يتيح له البقاء ثلاث سنوات إضافية، ليكمل بذلك تسع سنواتٍ -إن لم يحل دون ذلك حائل مفاجئ- في افتراض توقف الحرب خلال هذه المدة.
يقف البرهان في موقع أقوى مما كان عليه مع بدايات الحرب، بل وربما أقوى مما كان عليه لحظة سقوط البشير نفسه. فعلى السطح، قد يبدو أن البرهان استطاع تحقيق حلم أبيه بحكم السودان، لكنه بالتأكيد لم يحقق بعد حلم السودانيين في بناء دولة الحرية والعدالة والسلام. وقد ينتهي هذا الفصل إما ببزوغ فجر جديد إن صدق البرهان وعده وسلم السلطة حقًّا، أو بليل آخر من حكم العسكر إن قرر البقاء كحاكم مطلق جديد في تاريخ السودان الحديث.
وبين هذين الخيارين، يتساءل السودانيون: هل يمهّد البرهان لترسيخ حكم شخصي طويل الأمد تحت ذريعة حماية البلاد، أم أنه سيفاجئ الجميع بتسليم دفة القيادة لقوى مدنية منتخبة كما وعد؟ في كل الأحوال، ستذكر الأجيال أن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقف على شرفة قصر الحكم ذات يوم، منتشيًا بتحرير العاصمة من المتمردين، ومعلنا أنها صبحت حرة من قبضة قوات الدعم السريع التي يقودها حليفه السابق حميدتي.
0 تعليق