الجمعة 11/يوليو/2025 - 01:00 م
أضف للمفضلة
شارك شارك
علمني وأدبني أبي، فالعلم ليس في المدارس والجامعات فقط، ليس بشهادات تعلق على جدران البيت.
فالبيت مدرسة، والأم مدرسة، والوالد مدرسة، والحياة مدارس كبيرة.
كانت طبلية أبي مدرسة مستقلة في احترام المواعيد، في التجمع حولها، في مناقشة كل حياتنا، في القرارات الكبيرة والصغيرة، في الحوارات والمناقشات، في الإنصات للكبار عندما يتكلمون، في التعاون في إعدادها، في توزيع الأدوار لكل أفراد الأسرة، في سماع النتائج وتقديم التقارير اليومية عن المدرسة والأرض والزرع والعمل.
كان الجميع يلتف حولها بكل حب، حولها تلتئم الجروح، وتنتهي كل الخلافات.
في المندرة كانت المناقشات الكبيرة، والضيوف الكبار أهل وأغراب، تعقد فيها الاتفاقيات، بيع وشراء وزواج.
كانت محكمة للأسرة بدون قضاة، فقد كان قاضيها حكمه لا يرد، ولا يتم نقضه، هو نهائي يسري على الجميع كبيرا كان أو صغيرًا.
علمني أبي أداء الأمانة، وتقديم الواجب في السراء والضراء، كنت سفيرًا ومندوبًا عنه في كثير من المناسبات، أُقابل بحفاوة لأجله، وأكرم لكرمه.
أنا ابن أبي، بضعا منه، أشبهه في ملامحه، في مشيته، في كلامه، في نبرة صوته، في جلسته، في وقاره، لبست جلبابه، عبايته، سرت على دربه.
قال لي عندما تجلس في حضرة الكبار تعلم الصمت، الوقار، أنصت فالحكمة في أفواههم، فهؤلاء علمتهم الحياة والتجارب، وأعلم أن الله خلق الخير والشر، كما خلق الجنة والنار، ستجد الطيب والشرير، الصادق والمتلون، فاقرأ الوجوه فهي لا تكذب مهما حاولت أن تتجمل أو تراوغ، ولا تقع في حفرة مرتين، وفرق بين الصالح والطالح، واختار الصديق بعناية، فليس كل من تعرف أصدقاء، نفسك هي مرآتك فاصدقها القول والفعل، أدبها قدر ما تستطيع، فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان.
لا تعبد المال فهو شيطان، لا تتذلل له فهو زائل، وارضى بما قسمه الله لك، فالله جعل الناس درجات،
كرامتك هي تاجك، وكن مع الحق نصيرا، فلا توجد معركة بين حق وحق، لأن الحق واضح، ولا تطول معركة بين حق وباطل لأن الباطل زهوق.
إعلم أن الكلمة شرف الرجل، فكن لوعدك جدير، إن تحدثت تحدث بصدق، وإن ذكرت أحد فاذكره بخير وإن كان عدوا، فالمواقف تعيش، واجعل عملك إرضاء لله ولضميرك وليس للمكسب الدنيوي.
الكل سيذهب إلى قبره، لن يأخذ معه منصبه وجاهه وسلطانه، الكل من تراب، سيذهب وستبقى السيرة، فاجعلها صالحة.
علمني الكثير، فقد كانت حواراتنا لا تنتهي، وأمسياتنا طويلة، تكلمنا في كل شيء، اختلفنا واتفقنا.
لم تكن الحياة ناعمة، كان فيها كد وشقاء، تعلمنا فيها المسؤولية صغارا، لأننا تعلمنا أن نجلس مع الكبار.
كنا رجال في لباس الطفولة، لم نتمرد على قسوتها.
تعلمنا وتخرجنا من الجامعة ودخلنا معترك الحياة، تزوجنا وأصبح للوالد أحفاد، لكننا مازلنا أمامه صغارًا.
ما زلت أخفي سيجارتي عن عينيه، ما زلت أذهب إليه لأقدم تقريري عن حياتي وهمي وسعادتي.
فيا كل ابن اعلم أن والديك معهم تذكرة إلى الجنة، فافعل ما استطعت للحصول عليها، فطاعتهم ورضاهم من رضا الله.
حفظ الله أبي وأمي وكل أب وأم للجميع.
0 تعليق