في زمن لم تكن فيه النساء تخرجن من منازلهن إلا في أضيق الحدود، ظهرت الحاجة إلى امرأة تجيد الدخول إلى البيوت، والتحدث مع الأمهات، والتوسط في اختيار الأزواج والزوجات، تلك هي "الخاطبة" التي لعبت دورًا محوريًا في حياة المصريين، خصوصًا من أبناء الطبقات الوسطى والعليا، كما روى الكاتب زياد فايد في كتابه الممتع "كانت أيام.. حاجات من زمن فات".
مهنة بشروط اجتماعية صارمة
يقول "زياد": كانت الخاطبة غالبًا ما تكون "دلالة" أو سيدة كبيرة في السن، يثق بها الناس، وتتمتع بقدرة على التفاوض والكتمان، وقد منحها المجتمع المحافظ في ذلك الوقت "تفويضًا اجتماعيًا" لدخول المنازل والجلوس مع النساء والفتيات، للتعرف على أخلاقهن وصفاتهن، ومساعدتهن في إيجاد شريك الحياة المناسب، فالفتيات في ذلك الزمان لم يكن يذهبن إلى السوق، أو يخرجن وحدهن، لذا كانت الخاطبة حلقة الوصل شبه الوحيدة بين العائلات الباحثة عن الزواج.
يا بنتي.. دا عريس لقطة
ويضيف: كانت الخاطبة تبالغ كثيرًا في وصف العريس، وغالبًا ما تروي غير الحقيقة، فتقول عن الشاب مثلاً:
"يا بنتي دا شاب لطيف وصغير في السن وشيك وغني، وكمان وحيد يعني حيحقق لك كل أحلامك... دا شاب خام وتقدري تشكيله على مزاجك"
أما إذا كانت تبحث لعريس عن عروس، فهي الأخرى تستعرض الصفات: "دي صغيرة وبتجنن زي الغزال، ودي تانية يمكن مش حلوة بس غنية"، وكل شيء له سعره ومكانه، من الحسب والنسب، إلى الذهب والميراث.
الزيارة الأولى... خطة تمويه اجتماعية
ويضيف "زياد": وكانت أم العريس تزور أكثر من بيت، باعتبارها "زائرة عادية"، لكن من داخل العرف المصري، كانت البيوت تفهم المغزى، وحين تجد سيدة ما فتاة تناسب ابنها، تبدأ الأسئلة عن أصلها، جمالها، ذهبها، أو ما تملكه من مال أو أملاك إن كانت يتيمة الأب، ثم ترسل الخاطبة مرة ثانية لتحديد موعد "الرؤية الشرعية"، وبعدها يتم الاتفاق على الجهاز والمهر.

جهاز العروس... على الكارو والجمال
ويصف الكاتب بدقة كيف كان جهاز العروس ينقل على ظهور الجمال أو عربات الكارو، ويشمل سجادة، و"ديوان"، وأواني المطبخ، وكل ما تحتاجه العروس من ملابس، واللافت أن تكلفة الجهاز كانت تفوق المهر غالبًا، وهو ما ينفي الإدعاء الشعبي أن "الزوجة تشترى".

ليلة الزفاف... ألوان وأعلام وطبول
ويردف: اعتاد المصريون أن تكون "ليلة الدخلة" يومي الخميس أو الأحد، ويزين الحي بالرايات الحمراء والخضراء، وتضاء الشوارع، وترسل الدعوات للنساء عبر موكب تقوده "الخاطبة"، و"الداية"، و"البلاءة"، و"الماشطة"، وهن يرتدين شال الكشمير، يركبن الحمير، ويتقدمهن الطبالون، ويمررن على بيوت الجيران وصديقات العروس، يدعونهن لحضور حفلات الزفاف والذهاب إلى الحمام الشعبي قبل الليلة الكبرى.
وكان المدعوون يقدمون هداياهم: من السكر والأرز والشاي، وحتى الفضة والنقود التي تقدم على صينية مغطاة بشال حرير.

من الحمير إلى "الواتساب": الخاطبة لم تختف
يؤكد زياد فايد أن مهنة الخاطبة اختفت في شكلها الكلاسيكي، لكنها لم تندثر كفكرة، فقد ظهرت في التسعينات على شكل مكاتب تزويج تحمل لافتات مثل: "نساعدك في اختيار شريك حياتك"، وبدأت تطلب الاسم والسن والتليفون والمواصفات... مقابل عشرة جنيهات فقط، واليوم صارت "الخاطبة الرقمية" متوفرة في صورة تطبيقات، وصفحات فيسبوك، وبرامج تليفزيونية، بل وأحيانًا تتجلى في صورة قريبة أو زميلة عمل.
رغم تغير الزمان وتبدل الوسائل، بقي جوهر الزواج كما هو: قسمة ونصيب، ولعل ما يدعو للتأمل، كما يقول زياد فايد، أن كل تلك الطقوس التي أحاطت الزواج قديمًا، من المبالغة في المديح، إلى جهاز العروس وطقوس الحمام، كانت تعبيرًا عن مجتمع يؤمن بالستر والبركة قبل الصورة والفخامة.
0 تعليق