كيف يُعيد ناشطو العالم تعريف التضامن مع غزة؟ - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في عالم بات يتسم بتسارع التحولات التكنولوجية وتتآكل فيه القيم الإنسانية، وذلك في الوقت الذي بات العجز الجماعي عن وقف الإبادة والانتهاك المستمر لحقوق الإنسان في قطاع غزة مشهدًا متكررًا ومألوفًا، وتجاوز الصمت من كونه مجرَّدَ غياب أو موقفًا سلبيًا إلى أن يصبح شراكة ضمنية في الجريمة.

أمام هذا الفراغ الأخلاقي، قرر الآلاف من الناشطين الدوليين حول العالم أن يعيدوا تعريف التضامن ليتجاوز مجرد الموقف الرمزي، ليصبح ممارسة فعلية تستنبط المخاطرة وتشتبك ميدانيًا مع الأحداث والتطورات، متجاوزين حدود الدول والمشهد الإعلامي الاستهلاكي، مستلهمين من التجارب التاريخية التي أثبتت أن الضغط المستمر قادر على زعزعة أعتى الأنظمة.

فمن تونس إلى مدريد، ومن ستوكهولم إلى جوهانسبرغ، مرورًا بشواطئ صقلية وصحراء العريش، بدت تحركات الناشطين كخطوط اشتباك أخلاقي مع النظام الدولي القائم، متجاوزين شعارات التعاطف العابرة على المنصات التواصل الاجتماعي.

بيدَ أنهم معتمدون عليها في الدعم والتحشيد والتنظير لأفكارهم التي تتجسد بإنشاء حركة مقاومة مدنية عابرة للقارات، مستندة للوعي بأن استمرار الاحتلال والحصار لا يُفسَّر فقط بآلة الحرب، بل أيضًا بتواطؤ البنى الاقتصادية والتقنية الكبرى، وأن التاريخ لن يرحم من تواطأ ومن صمت عن ظلم الإنسان يومًا.

في قلب هذا المشهد تبرز تجربة أسماء درجة ابنة المغرب وتونس، الحاصلة على جنسية ألمانية، والتي تنقّلت بين كبرى المؤسسات العالمية: "دويتشه بنك"، "سيمنز"، "ديلويت"، وصولًا إلى منصب مديرة مشاركة في "أمازون ويب سيرفيسز"، الذراع التكنولوجية الأخطر في العالم.

لكن الأهم من سيرتها هو خيارها الأخلاقي: الاستقالة الصامتة من منصبٍ مرموق فلم يكن أزيز الطائرات فوق غزة هو ما أيقظ ضميرها، بل لحظة الصمت الطويل في مكتبها الزجاجي وهي تعمل لصالح "أمازون"، عندما شعرت أن كل ما تبنيه هناك- من إستراتيجيات وأرقام وتحولات رقمية- لا معنى له إن كان سيُستخدم ضد حياة أحد، ولو كان طفلًا في غزة.

إعلان

فقد شعرت أسماء أن ما تساهم به تقنيًا قد يُستخدم كجزء من البنية القمعية الموجهة ضد الفلسطينيين، ضمن مشروع "نيمبوس" الذي يربط "أمازون" و"غوغل" لتزويد الاحتلال بأنظمة ذكاء اصطناعي تُستخدم لأغراض عسكرية.

خرجت وهي تدرك أن الرحيل من أمازون ليس كافيًا. فالقمع لا يحدث فقط في غرف الاجتماعات، بل أيضًا في آليات الذكاء الاصطناعي، في الخوارزميات، في الصمت المتواطئ.

فلم تكتفِ بالانسحاب، بل أسست تحالفًا أخلاقيًا للذكاء الاصطناعي في إسبانيا، داعية إلى إعادة مركزية القيم الإنسانية في تصميم الخوارزميات. تقول: "لا معنى لأي خطاب عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا يتوقف عند غزة. هناك تُختبر أخلاقياتنا، وهناك يتحدّد موقعنا الحقيقي من الكرامة الإنسانية".

وتابعت: "لا بد أن نذكِّر الجميع بأن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة محايدة، بل بات يُستخدم اليوم كأداة قمع واحتلال. ويجب أن نعيد مساءلته من جذوره".

لكن هذا الموقف النظري سرعان ما اتخذ طابعًا نضاليًا مباشرًا، حين أُطلقت الدعوة إلى "المسيرة العالمية نحو غزة"، بعنوان قافلة الصمود في 9 يونيو/ حزيران 2025 في محاولة لتحدي الحصار الإسرائيلي، شارك في هذه المبادرة، التي نظّمتها "تنسيقية العمل المشترك لأجل فلسطين"، أكثر من 1500 ناشط من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، بينهم نقابيون وأطباء ومحامون، تجمّعوا في حوالي 14 حافلة و350 سيارة، محمّلين برسائل واضحة: كسر الحصار، وإدخال المساعدات الإنسانية، ورفع قضية غزة إلى مستوى الضغط الشعبي والأخلاقي.

وكانت أسماء واحدة من المشاركين بعد أن ارتأت أن واجبها لا يكتمل إلا بالمشاركة الميدانية. فاستبدلت هاتفها، أعدّت مواد توعوية عن الاستخدامات العسكرية للتقنية، وانطلقت نحو مصر، مدركةً أنها قد تُمنع أو تُعتقل. وما حدث لاحقًا كان احتجاز في المطار، تفتيش، استجواب، ثم إفراج مشروط بمراقبة.

في بادئ الأمر كانت القافلة تسير بشكل يليق بالشعوب العربية وأصالتها، ومع تجاوزها الحدود التونسية- الليبية نحو معبر رأس جدير، حظيت القافلة باستقبال شعبي دافئ في مدن قابس ومدنين وصفاقس، حيث تجمع وفد من أهالي المدن واستضافوا المتضامنين وأعدوا مأدبات تكريم لهم، في مشهد يُجسّد وحدة الشعوب العربية في نصرة القضية. ثم دخلت القافلة الأراضي الليبية يوم 10 يونيو/ حزيران لتبدأ المرحلة الثانية نحو مصر.

هنا بدأت مشاركة أسماء التي انضمت من خلال الوصول جوًا إلى مصر أرض الالتقاء للتحرك إلى الحدود المصرية الفلسطينية، تقول أسماء: "من لحظة وصولي إلى مطار القاهرة لم تسر الأمور كما توقّعت أو بالأحرى بهذه السرعة!، فبعد أن ختم جواز سفري طلب مني الوقوف جانبًا، ثم تم نقلي مع مجموعة من الأشخاص إلى غرفة مغلقة، حيث تم تفتيش هواتفنا وعندما توجه العسكري ليسألني عن سبب الزيارة كنت مصممة على أني هنا للاحتفال بعيد ميلادي ولأني قمت باستبدال هاتفي مسبقًا فلم يكن فيه أي شيء يدينني، لقد جهزت كل شيء لأضمن ألا يتم ترحيلي قبل أن أؤدي الرسالة التي جئت من أجلها".

تتابع أسماء: "في اليوم التالي، اتجهت إلى الإسماعيلية. من خلال طريق صحراوي طويل لتجنب نقاط التفتيش، وبعد أن وصلنا إلى نقطة الالتقاء الأولى وكدنا نتنفس الصعداء لاقترابنا جدًا من الهدف المنشود، خرجت علينا قوات بلباس مدني اعترضت طريق الحافلة تبعها قوات أمرت السائق بالعودة للقاهرة".

إعلان

كانت لحظة انكسار بدت قريبة، لكنها قررت أن تقفز من السيارة وتنضم للمسيرة. وسط الحشود، كانت تردّد الهتافات وتوثّق اللحظة بكاميرا هاتفها. هناك التقت حفيد نيلسون مانديلا وهو يهتف: "حرية فلسطين امتداد لحرية أفريقيا"، ثم تم تفريق التجمع تحت التهديد والقوة.

تقول أسماء: " عدت إلى القاهرة ودموعي لم تتوقف لحظة، شعرت بخيبة أمل كبيرة، ووجوم لا يمكن التعبير عنه".

قصة أسماء ليست استثناءً، بل جزءًا من موجة عالمية يتصدّرها ناشطون من الجنوب والشمال، من العرب، والأفارقة والأوروبيين والآسيويين.

في قافلة "صمود"، اعتُقل بعضهم، وتعرّض آخرون للمنع. لكنهم أصرّوا على مواصلة الرحلة، ثم أعادوا ترتيب صفوفهم في تونس من جديد، في مشهد يُذكّر بتجارب التضامن الأممي مع جنوب أفريقيا إبان الفصل العنصري.

فقد بدأت حركة المقاطعة الدولية ضد نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين، مدفوعة بمزيج من الوعي السياسي لدى الشعوب واستفحال السياسات العنصرية التي فرضها النظام على الأغلبية السوداء.

واحدة من أولى الحملات الرمزية كانت حملة مقاطعة البطاطا عام 1959، والتي سلطت الضوء على ظروف العمل القسري في مزارع النظام، ما فجّر سلسلة من ردود الفعل داخليًا وخارجيًا.

في العقود اللاحقة، تحوّل التضامن من فعل احتجاجي إلى منظومة ضغط متكاملة؛ فقد قادت اتحادات العمال والنقابات والطلاب في بريطانيا وكندا والسويد والولايات المتحدة، حراكًا شعبيًا واسع النطاق.

رُفِض تفريغ السلع الجنوب أفريقية في ميناء ليفربول، وسُحبت صناديق التقاعد والاستثمارات من الشركات الداعمة للنظام العنصري. امتدت هذه الممارسات لتشمل قطاع الرياضة والفنون، حيث تم منع مشاركة جنوب أفريقيا في الأولمبياد والأحداث الثقافية الكبرى.

وقد أثمر هذا الزخم الشعبي عن ضغوط مؤسسية، دفعت الأمم المتحدة إلى إصدار قرارات بعقوبات اقتصادية ضد بريتوريا بدءًا من عام 1962. ورغم مقاومة بعض الحكومات الغربية هذه الضغوط، فإن التراكم الكمي والنوعي للحراك الشعبي أدى إلى حصار سياسي واقتصادي خانق، بلغ ذروته في أواخر الثمانينيات. ومع دخول عقد التسعينيات، انهار النظام العنصري، وأُجريت أول انتخابات ديمقراطية في جنوب أفريقيا عام 1994.

بهذا المعنى، فإن تجربة جنوب أفريقيا قدّمت نموذجًا بالغ الأهمية لحركات التضامن الحديثة، لا سيما في القضية الفلسطينية. فاليوم، تتحرك قوى مدنية عالمية ضد الاحتلال الإسرائيلي بنفس الأدوات تقريبًا: المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، سحب الاستثمارات، والتحرك الشعبي في الشارع، وعلى مستوى المؤسسات.

التحولات الأخيرة تشير إلى لحظة مفصلية: فلسطين لم تعد قضية هامشية في الضمير العالمي، بل اختبارًا أخلاقيًا للحداثة ذاتها. لم يعد التضامن فعلًا إنسانيًا فقط، بل موقفًا سياسيًا ضد بنية الظلم العالمية.

فهؤلاء الذين تركوا وظائفهم، أو سافروا إلى الحدود، أو تظاهروا في شوارع مدريد وجوهانسبرغ وكوالالمبور، لم يكونوا يُمارسون التعاطف، بل يشاركون في إعادة تعريف السياسة كأداة تحرر لا استعمار واستيطان.

وعلى غرار تجربة جنوب أفريقيا، التي بدأت من هوامش النضال وتحولت إلى تيارٍ عابر للحدود، تعيد غزة اليوم تفعيل ذات البوصلة الأخلاقية. الفارق أن أدوات القمع اليوم أكثر تعقيدًا، مدعومة بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية.

لكن على الصعيد نفسه تطورت أدوات المقاومة لهذه الوسائل أيضًا، إذ أصبح التضامن الرقمي، والمقاطعة التقنية، والتحشيد الحقوقي أمام المحاكم الدولية، كلها أدوات مركزية في معركة نزع الشرعية عن الاحتلال.

من هنا، فإن حركة التضامن الدولي لا تُقاس بعدد الذين وصلوا إلى غزة فعليًا، بل بمدى اختراقها المفاهيم التقليدية للالتزام الأخلاقي، مشكلين تضامنًا تجاوزَ الحد العاطفي والشعارات إلى المساءَلة للمنظومات الداعمة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي أو المساهمة بشكل فعلي في الإبادة الجماعية التي تنفذ في قطاع غزة، من خلال مقاومة مدنية عابرة للجنسيات، فكل خطوة نحو غزة، وإن أُحبطت، تُحدث ثقبًا جديدًا في جدار التواطؤ.

إعلان

وكما ختمت أسماء حديثها: "لسنا مجرد متضامنين. نحن نُعيد تعريف من نكون في هذا العالم. وغزة ليست بعيدة، إنما في مركز كل الأسئلة الكبرى عن العدالة والتقنية والضمير البشري"، وتابعت: "أنا فقط أريد أن أقول لغزة: نحن هنا، ننظّم، نتحرّك.. ولن نتنازل حتى تنعموا بالحرية مثل كل الشعوب".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق