من المدهش – بل من المفزع إن شئنا الدقة – أن ترى في تاريخ البشرية كيف سقط عمالقة الفكر، وأئمة الأدب، ورواد العلم في هاوية الاكتئاب، وتجرعوا مرارة العزلة أو غصص الانتحار، ومن أكثر المناظر قسوة أن ترى مفكرًا حقيقيًا وقد خفت بريق عينيه، لا لضعف في علمه، أو قصور في عقله، أو نقص في رسالته ولا لنفاد في فكره، بل لأنه أرهق من الصراخ في وادٍ لا يرد عليه إلا الصدى، ومن فرط ما حمله من وعي، وما لمسه من خيبة أمل في الواقع من حوله، ولعل أشد ما يصيب أهل الفكر من بلاء، ليس مجرد الحزن، بل الاكتئاب الصامت الذي يشبه الموت البطيء، حيث تنطفئ الروح في الجسد حيّة.
ويصاب أهل الفكر بالاكتئاب، حين تصير العقول العالية في مرمى الغربة والخذلان، ربما لأن وعيهم يسبق زمنهم… وربما لأنهم يرون ما لا يٌحتمل، ويسمعون ما لا يُقال، ويدركون ما يتغافل عنه العامة عن طيب خاط، في قلوبهم مرصد دائم يتتبع خبايا النفوس وأسرار المجتمعات، وفي رؤوسهم معمل لا يهدأ، يحلل ويقارن ويقترح ويصرخ بلا صوت.
لقد ساد وهم طويل أن العقل يحمي من الانهيار، وأن الثقافة تقي من القلق والاضطراب، فإذا بالواقع ينقض هذه الأسطورة بأسى شديد، وها هو نيتشه، فيلسوف القوة والتمرد، ينتهي إلى الجنون، وها هو دوستويفسكي، الروائي العظيم، لا ينجو من صرع الخوف والذعر الوجودي، بل حتى طه حسين، عميد الأدب العربي، لم يسلم من نوبات الحزن العميق.
أليسوا – جميعًا – من الصفوة التي قيل عنها "تسكن فوق القمم"؟ فكيف تتسلل إليهم الكآبة؟
الجواب في الحقيقة بسيط ومؤلم، فمن يعيش فوق القمم، يواجه دائمًا الهواء الأقل... والأشد برودة، ويكون الأقرب للسقوط الموجع إن اختلّ توازنه.
إن أقسى ما يواجهه المفكر، ليس فقط تحدي الأفكار المضادة، بل خذلان من ظنهم شركاء التغيير، فقد يُعاني من أن المجتمع لا يسمعه، أو يسمعه ليرفضه، أو الأسوأ: يسمعه ليبتذله، وربما تأتي الطعنة لا من الجهلاء، بل من "رفاق القلم"، الذين لم يصبروا على الفكر فأخذوا يقتاتون على بريق الشهرة وخداع الجماهير.
وما بين جحود الواقع وقلّة الأنصار، يشعر المفكر وكأنه يقف وحده في ميدان الحرب، لا سلاح معه سوى الكلمة، وقد خذله الصوت، وخانه الحبر.
وقد يمتد هذا الخذلان المجتمعي لآراء المفكر من المحيط الأقرب منه، وما أقسى أن يكون أول من يخذله هو من كان ينبغي أن يكون أول من يفهمه، وكم من مفكر لم تجد كلماته طريقها إلى زوجته أو أبنائه؟ وكم من كاتب هُزم نفسيًا لا من خصومه، بل من أهله الذين سخروا من كتبه، أو عابوا عليه "الشرود" وكثرة التفكير، أو اعتبروا مؤلفاته وكتبه مجرد عبث وإضاعة للوقت! وأكاد أسمع أحدهم الآن يشكو من أنه ظل يعاني من العزلة سنين طويلة، لا لأن أحدًا يرفض أفكاره، بل لأن أقرب الناس إليه لم يبالوا حتى بقراءتها.
وهذا يفسر قولًا مأثورًا قديمًا: الجاهل يحاربك بالسخرية، والعالم يحاربك بالنقاش، أما القريب الجاهل… فيحطمك بالتجاهل.
لقد قال نجيب محفوظ ذات مرة، وهو حائز نوبل: أحيانًا أشعر أني أكتب في الفراغ، لا أحد يقرأ، لا أحد يهتم، رغم شهرته، لكنه حكى في مذكراته أن كثيرًا من أفراد عائلته لم يقرأوا له سطرًا واحدًا، وطه حسين، عميد الأدب العربي، كانت زوجته الفرنسية تشكو في لحظة صدق مع ذاتها أن طه حسين يحب الكتب أكثر مما يحب بيته، وكأن الإبداع تهمة تستوجب العزلة، أما محمود درويش، رغم جماهيريته، كتب في أواخر أيامه: ما أصعب أن تكون شاعرًا وحيدًا في وطنك.
وألبير كامو، الفيلسوف والكاتب الفرنسي، الحائز نوبل أيضا، هناك أخبار تواترت عن انتحاره بالاكتئاب وسط انشغال الناس بجوائزه لا بألمه، وكان يردد دائما على نفسه قوله: أن تكون مفكرًا يعني أن تحترق من الداخل في عالم لا يشعر بك.
والذين رجحوا فكرة انتحار ألبير كامو اعتمدوا على أنه كان يرى عدم وجود معنى للحياة، وبالتالي عدم وجود جدوى لكل ما يفعله الإنسان من عملٍ أو مجهود، فكل ذلك فى رأيه كان سيضيع سدىً بما أن نهاية البشر فى الأخير هي العودة من جديد إلى العدم أو اللاشيء.
نحن في مجتمعاتنا، ما زلنا ننظر إلى المفكر نظرة "الاستنزاف"، نريد منه أن يكتب دون غلاف يحميه من طعنات الجهل والحسد، فإذا ما سقط أو اكتئب، ظنوا ايمانه قد ضعف، أو أنا أصيب بجنون العظمة، دون أي فهم علمي لحقيقة ما جرى.
إن الدولة التي تهمل عقل مفكر… تهدم عقل أمة، ولا توجد نهضة تقوم على عضلات فقط، ولا تبنى الأمم بالحديد والخرسانة وحدها، بل بالفكر والرؤية والمعنى، لكن ما نراه اليوم أن المؤسسات الرسمية تتعامل مع المفكرين كـأثاث زائد في بيت الدولة. فلا تقرأ لهم، ولا تستمع إليهم، ولا تشركهم في صناعة القرار، تُكرّمهم بعد وفاتهم، وتنشر صورهم في المناسبات، لكنهم في حياتهم يُحاربون ويُتهمون بالجدل، أو يُصنَّفون بأنهم مثقفون مزعجون.
كيف لعقل مفكر أن يصمد أمام تجاهل متعمد، وانهيار منظومة التعليم، ورداءة الحوار العام؟ كيف لا يكتئب وهو يرى الدولة تنفق على الترف، وتتجاهل بيوت العلم، وتمنح الجوائز لمَن لا يستحقون، وتقصي مَن لديهم الفكرة الصلبة والضمير اليقظ؟
و الوطن لا يجب أن يترك عقوله تنهار، وحين يصاب المفكر بالاكتئاب، يخسر المجتمع نبعًا من الجمال، وحين ينهار أستاذ جامعي بين ضغط المعيشة والإهمال، يخسر طلابه معلمًا عظيمًا، وحين يصمت كاتب، لأن كلامه صار عبثًا في زمن الضجيج، يخسر الوطن صوتًا نقيًّا نادرًا.
ويجب على الدولة أن تعلم أنها إذا لم تقرأ لمفكريها… فستعيد أخطاءها بنفسها، وستدور في دوائر جهلها حتى الفناء، فنحن لا نخسر أفرادًا، بل نخسر أنفسنا حين ندفع العقول النبيلة نحو الهاوية.
ربما لا نملك أن نمنع الحزن عن قلوب المفكرين، لكن يمكننا أن نحيطهم بشبكة من الفهم والتقدير والدعم من خلال ثقافة الاحتواء، لا ثقافة الاستهلاك، فنحن نحتاج إلى أن نحمي الذين يفكرون فينا، قبل أن نصحو يومًا فنجدهم قد رحلوا... أو قد صمتوا إلى الأبد.
الرسالة الأخيرة: لا تجعلوا المفكر يصرخ في العدم، نحن لا نطلب أن يُصنّف المفكر في خانة "الأنبياء"، بل فقط أن يُسمع له، أن يُحترم جهده، أن يُفتح له باب الحوار، أن يكون له موضع قدم في وطنٍ يريد أن ينهض. فإن لم يكن، فسينهض وحده… ثم يسقط وحده.
إن أمة لا تضع عقولها في مقدمة الركب… أمة تستحق حياة المقابر!
0 تعليق