الإثنين 30/يونيو/2025 - 01:30 م
أضف للمفضلة
شارك شارك
قلوب اكتساها الألم والقهر، قلوب موجوعة ولم تشتكِ عذاباتها، قلوب عاشت غنية بالرضا والقناعة، الفقر لم يهزمهم، واليأس لم يسكن جوانبهم، قاوموا البؤس والنسيان، وانعدام الخدمات.
اليوم نبكي فتيات في عمر الزهور فقدن حياتهن وهن يناضلن من أجل لقمة العيش، لكل فتاة حكاية تُروى، لكل منهن أحلام وطموحات، فأحلامهن لم تكن كبيرة، كنّ يطلبن الستر، لم يعرف الترف لهن طريقًا، سعادتهن في تجمعهن، يلتففن حول بعضهن البعض، يسردن الحكايات، عن فستان فرح هويدا، عن خطوبة داليا، عن سفر إبراهيم، عن عمل خطيب نجوى، عن المسلسلات التركية، عن المدرسة والجامعة، عن مستقبلهن عندما يتزوجن، عن رغبتهن في استكمال تعليمهن ليحظين بحياة أفضل مستقبلًا.
لكن قتَلتهن الرعونة والاستهتار، اتشحت قريتهن بالسواد، تحجرت الدموع في عيون أمهاتهن، الصدمة قاتلة، عيون أهاليهن حائرة، يرونهن في كل مكان، تخطئ الأم وتنادي على ابنتها، لا تجيب، ولن تجيب بعد الآن، فقد أخذت فستان فرحها وذهبت إلى جنة الرضوان.
تلك لن تكون آخر الحكايات، ولن تكون آخر الحوادث المفجعة، ولن يكفّ الأهل عن إرسال أولادهم الصغار إلى العمل، ستستمر الحياة، وهم معها يستكملون كل تفاصيلها، وكل أوجاعها تلازمهم.
لا يعلم الكثيرون عن معاناة قاطني القرية المصرية، لكن بداية يجب أن نشيد بالفضل لحملة القضاء على فيروس سي الذي كان ينهش في أجسادهم، ولبرنامج "حياة كريمة" التي دخلت بعض القرى وليس جميعها، فقد غيرت الكثير من واقعهم المرير، وما زالت هناك قرى كثيرة تنتظر أن ترى نور الحياة، بعد أن عاشت عهودًا من النسيان والإهمال، فلا خدمات ترعاهم وتحسّن من أحوالهم، باختصار لا توجد حياة آدمية حقيقية، وكأن قاطني تلك الأحوزة من أرض الوطن هم خارج زمننا.
أنا من الجيل الذي عاش تلك الحياة بكل واقعها ومرارتها، مدرسة مشتركة تخدم عددًا من القرى، لا كهرباء، لا طرق ممهدة، لا صرف صحي، لا مياه نظيفة، كنا نقطع مسافات طويلة للحصول على عبوة مياه صالحة للشرب، وكانت الوحدة الصحية مجرد مبنى تم الاحتفاظ بمعداته في المخازن لأنها عهدة شخصية ولا يتم استخدامها، طبعًا لا دكتور ولا ممرضين، عندما أقاموا مكتب بريد داخل القرية أقمنا الأفراح وتبادلنا التهاني.
كنت وما زلت أعتبر أهلنا من الفلاحين هم الشهداء الأحياء، فقد عانوا كثيرًا، ورغم ذلك تحملوا ضغوط وظروف حياتهم الصعبة بكل رضا وقناعة، لم يشتكوا يومًا وواصلوا عطاءهم بصبر ومثابرة، فهم صمام أمن مصر الغذائي.
وفي المقابل، ماذا قدمت الدولة على مدار عقود؟ إهمال ونسيان، تركوهم يعيشون في العصور الوسطى، كان التركيز في المدن، أما القرى فتركَت تعاني الإهمال، وعاش الفلاح يكابد غلاء الأسمدة والمبيدات، وبنك التسليف الزراعي، تُركوا بين عصا الرحى من إجبار على تسليم محاصيلهم بسعر غير عادل، تُركوا لحرارة الشمس تلهب وجوههم، وصقيع الشتاء يضرب أجسادهم، دون أن يحنو عليهم أحد، حتى طبطبت على بعضهم خدمات "حياة كريمة" التي نتمنى أن تدخل كل القرى.
تُركوا للفقر يعتصرهم، تُركوا لموروثاتهم الشعبية والفكرية بأن الأولاد عزوة، لينجبوا أطفالًا يكونون مصدر دخل لعائلاتهم، وتزويج بناتهم القاصرات.
علينا أن لا نهرب من الحقيقة، ويجب دراسة أوضاع القرى من كل جوانبها، فليست أطفال قرية السنابلة هي فقط من تذهب إلى العمل، بل أطفال كل القرى يذهبون إلى العمل، وسيستمرون يذهبون طالما دخول أهاليهم لا تسد رمقهم.
فلتشاهدوا من كان يقاوم دودة القطن في عز الصيف، من يجمع القطن، من يحصد الطماطم في المزارع، من كان يجني العنب، من اعتلى مقطورة الجرار الزراعي، أو يركب العربة النصف نقل، من يتحشرون كالحجارة داخل وسائل ليست آدمية، من، من، كلهم أطفال، وتلك هي حياتهم، ولن تتغير إلا بوقفة جادة ليعيشوا حياة كريمة.
سيستمر شقاؤهم وإرهاقهم في طفولتهم، وستستمر الحوادث، وستظل الدموع متحجرة، والوجع يضرب في القلوب الموجوعة، فتلك ليست أولها وليست آخرها، طالما حياتنا رخيصة، فالقوانين والتشريعات خُلقت للمدن، والموت خُلق للشهداء في القرى المنسية.
لديّ من الكلام الكثير ما لم تستوعبه تلك المساحة الصغيرة، عليكم بالنزول إلى واقعهم ومعايشتهم بشكل حقيقي، فهم مجرد أرقام في صناديق انتخابات السادة النواب، لا يوجد أي دور لأي مؤسسة من مؤسسات الدولة في التوعية والتوجيه والرعاية، بغض النظر مرة أخرى عن برنامج "حياة كريمة" أو "تكافل وكرامة" والذي به كثير من الأمور التي يجب مراجعتها، فالواقع هو الحقيقة التي نهرب منها، وهو أسوأ بكثير.
أرجو أن تكون تلك الواقعة جرس إنذار والتحرك بشكل حقيقي لرفع معاناتهم، فمهما صرفتم من إعانات للضحايا أو المصابين، تلك مسكنات وليست حلولًا، ولن تعيد أموالكم أبناءنا، لكن دعونا نحافظ على من تبقى من ثروتنا البشرية.
وليُحاسب كل مسؤول مقصر في عمله مهما كان منصبه، فنحن في دولة قانون، وكل من أخطأ يجب أن يُعاقب، ولا نريد أن يكون السائق هو كبش الفداء، فهناك منظومة متكاملة يجب أن تخضع للحساب، حتى تستقيم ونصدق أننا حقًا في جمهورية جديدة.
0 تعليق