يواجه العراق اليوم تهديدا حقيقيا بحق تنوعه اللغوي، إذ تقترب عديد من لهجاته الأصيلة من حافة الاندثار، رغم ما تمثله من ركيزة أساسية في هويته الثقافية والتاريخية الغنية.
ففي الثامن من يونيو/حزيران الجاري، أطلق المركز الإستراتيجي لحقوق الإنسان دعوة عاجلة لحماية نحو 500 لهجة محلية -رئيسية وفرعية- مهددة بالزوال، مشددا على أهمية الحفاظ على اللهجات المحلية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الموروث الشعبي والهوية الثقافية للمجتمع العراقي، التي تعكس تنوعه الحضاري واللغوي "العميق".
وتشير التحديات الحالية إلى تراجع ملحوظ في استخدام هذه اللهجات وتوارثها بين الأجيال كما تواجه اليوم خطر الاندثار الفعلي، بسبب مجموعة من العوامل الاجتماعية، والسياسية، والديمغرافية، حسب ما يقوله الخبير التراثي جنيد عامر من الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية.
وأشار عامر خلال حديثه للجزيرة نت إلى عدة لهجات مهددة، تختلف درجة تعرضها للخطر، ومن أبرزها:
- اللهجة المندائية: يتحدث بها أبناء الطائفة الصابئية المنتشرة في ميسان وذي قار وبغداد. تأثرت هذه اللهجة بالآرامية، وهي مهددة بشدة بسبب قلة عدد المتحدثين، وهجرة الكثيرين، وعدم توارثها بين الأجيال الجديدة.
- اللهجة السريانية الحديثة: يستخدمها الآشوريون والسريان والكلدان في مناطق مثل سهل نينوى ودهوك. رغم أنها لا تزال حية نسبيا، فإنها مهددة بسبب النزوح والحروب، خاصة بعد اجتياح داعش، الذي أدى إلى تهجير جماعي للمتحدثين بها.
- اللهجة الشبكية: خاصة بجماعة الشبك في سهل نينوى، وتتأثر بلغات تركمانية وكردية. وتواجه ضغطا لغويا من العربية والكردية، مما يهدد خصوصيتها، خاصة مع اختلاط السكان بعد النزوح.
- اللهجة الفيلية (الكرد الفيلية): لهجة كردية مميزة مهددة جزئيا، نظرا لتهجير كثير من الكرد الفيلية قسريا، واعتماد نسبة كبيرة منهم على اللغة العربية في حياتهم اليومية.
- اللهجة الزنجبارية: لهجة نادرة جدا ومهددة للغاية، يتحدث بها بعض العوائل من أصول أفريقية في جنوب العراق، خاصة البصرة والزبير. اندمج معظم المتحدثين بها في المجتمع العربي المحيط، مما أدى إلى اختفائها تدريجيا.
- اللهجات البدوية الأصلية: في الأنبار والمثنى والنجف وجنوب بغداد (مثل لهجات شمر والدليم وعنزة) تواجه تهديدا تدريجيا بسبب التحضر وانتقال السكان للمدن، مما يؤدي إلى التخلي عنها لصالح اللهجات المدنية السائدة.
إعلان
إجمالا، يقدر عامر أن ما بين 6 إلى 8 لهجات في العراق مهددة بالزوال نهائيا ومئات أخرى بدأت تضعف تدريجيا، وتتراوح درجة التهديد من شبه الاندثار إلى الخطر المحتمل إذا لم تتخذ خطوات وثيقة للحفاظ عليها.
التعليم حجر زاوية للحفاظ على التراث اللغوي
ولمواجهة هذا التحدي، أكد عامر أهمية إدراج هذه اللهجات المهددة في المناهج التعليمية، في خطوة إستراتيجية للحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية المتنوعة للعراق، مقترحا أن يتم ذلك ضمن مناهج الدراسات الثقافية والاجتماعية، وليس ضمن مقررات لغوية إلزامية، لتعزيز الفخر بالتعدد اللغوي بدلا من الشعور بالتفوق أو النقص.
شدد عامر على أهمية الأساليب التعليمية التفاعلية، مثل القصص المصورة، والمسرح المدرسي، وإنتاج المحتوى السمعي والبصري (الأغاني الشعبية، الحكايات الفلكلورية، والرسوم المتحركة) باللهجات المحلية. كما أكد ضرورة تدريب المعلمين على عرض هذه اللهجات باحترام وتوازن.

دور الحكومة محوري وضروري
وشدد عامر على أن للحكومة العراقية دورا محوريا وأساسيا في دعم هذه المبادرة، معتبرا اللهجات جزءا من التراث اللامادي للعراق، داعيا إلى:
- الاعتراف الرسمي بهذه اللهجات باعتبارها جزءا من ثروة العراق اللغوية ومكونا من مكونات التنوع الثقافي، من خلال تشريعات دستورية أو قوانين خاصة.
- إنشاء مراكز متخصصة لأرشفة وتسجيل هذه اللهجات علميا بالصوت والصورة، بالتعاون مع الجامعات.
- تخصيص موازنات مالية لدعم الأنشطة المتعلقة بحماية اللهجات.
- دعم الإعلام الرسمي لبث برامج باللهجات المحلية وتعزيز مكانتها في الوعي العام.
- حماية المتحدثين من خلال سن قوانين تحظر التمييز أو السخرية من أي لهجة محلية.
غياب الدراسات الرسمية الشاملة
وكشف عامر عن غياب دراسة حكومية رسمية أو مسح وطني شامل في العراق يصنف اللهجات وفق معايير خطر الانقراض، مشيرا إلى أن معظم المعلومات المتوفرة تأتي من أبحاث أكاديمية فردية، ومساهمات منظمات ثقافية ودينية، وتقارير محدودة من اليونسكو، إضافة إلى مبادرات شخصية.
وأشار إلى الحاجة الماسة لمشروع وطني مؤسسي شامل يتضمن مسحا لغويا شاملا، وتصنيفا علميا للهجات، وإنشاء قاعدة بيانات رقمية، وتحديد مستويات الخطر لربطها ببرامج توعية وتعليم وحماية.
اللهجات العراقية في ظل العولمة الرقمية

من جانبه، حذر الأكاديمي والباحث في التراث العراقي قاسم بلشان من التأثير الكبير والفعلي لوسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة على دور وأصالة اللهجات العراقية.
وقال بلشان للجزيرة نت إن غياب ثقافة حقيقية للحفاظ على هذه اللهجات يهدد جزءا أصيلا من الهوية العراقية، موضحا أن العراق، بتاريخه العريق وتنوعه الثقافي، يزخر بمئات اللهجات، لا سيما مع وجود أكثر من 18 محافظة، وكل مدينة -بل وحتى داخل المدينة الواحدة- تضم عشرات اللهجات الفرعية.
وأضاف أن هذه اللهجات، سواء كانت رئيسية أو فرعية، لم تلق الاهتمام الكافي الذي يتناسب مع أهميتها كمرآة عاكسة لتاريخ الأجداد على مدى آلاف السنين، بل إن بعضها قد تكون "لهجات ميتة" تتغلغل في عمق التاريخ.
إعلان
وأكد الدور المحوري الذي يجب أن تضطلع به المراكز الثقافية ومؤسسات الدولة المختلفة، في حماية هذا التراث اللغوي، مشددا على ضرورة تنظيم المهرجانات وعقد ورش العمل للتعريف بهذه اللهجات المتنوعة.
كما نبه إلى ظهور ما سماها "اللهجات الهجينة"، وهي لهجات تتأثر بمفردات من دول عربية وغير عربية، مما قد يؤدي إلى ضعف السيطرة على اللهجة العراقية الأصيلة والعريقة في ظل الانفتاح العالمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، داعيا إلى إيلاء اهتمام جاد للدراسات المتعمقة في هذا المجال للحفاظ على نقاء هذه اللهجات.
وأكد بلشان أن حماية اللهجات العراقية في صميم تعزيز الهوية الوطنية العراقية والتنوع الثقافي للفرد العراقي، واصفا اللهجة العراقية بأنها "سهل ممتنع"، تتميز بخفتها وبلاغتها، مما أسهم في انتشارها الواسع مؤخرا في عديد من الدول، خاصة العربية، سواء في الفكاهة أو الأغاني، وهو ما يجعلها لهجة محببة ومقبولة لدى مختلف المجتمعات.
دعوة لتوثيق اللهجات المهددة بالاندثار

من جانبه، دعا الباحث في الأدب والتراث الشعبي، عادل حسوني العرداوي، إلى إنشاء مراكز بحثية متخصصة. تقوم بجولات استطلاعية في مختلف مناطق العراق، لتوثيق اللهجات التي كادت أن تنقرض من أفواه الناس، وذلك قبل فوات الأوان.
وأكد العرداوي -للجزيرة نت- أهمية هذه الخطوات. ومع قناعته بالحاجة لمثل هذه المبادرات، فإنه أعرب عن اعتقاده بأنه "لا توجد حاليا أرضية متوفرة لذلك"، مشيرا إلى "عدم فهم لأهمية تلك اللهجات الشعبية سواء في المناطق الحضرية أو القرى والأرياف".
0 تعليق