برزت خلال الفترة الأخيرة في تونس تحركات ومبادرات فكرية وسياسية من أكثر من جهة، سياسية ومدنية خلقت ديناميكية جديدة حرّكت مياهًا راكدة واخترقت مساحات ظلّت لوقت قريب متروكة أو مؤجلة.
أسهمت هذه الديناميكية في بعث نفَس جديد في التداول في الشأن العام، يراها متابعون تحوّلًا نوعيًا في المشهد التونسي، نقل الصراع من طابعه السياسي المباشر إلى سجال فكري أوسع وأعمق. فهل تكون تونس سبّاقة في إطلاق "ربيع فكري" مثلما كانت سبّاقة في إطلاق ربيع الثورات العربية؟
سياق مأزوم
تواصل سلطة الأمر الواقع في تونس سياسة "قتل السياسة" وتجريف الفضاء العام، عبر تغييب أبرز فاعليه من سياسيين ونشطاء مدنيين، مستندة إلى "عنف الدولة"، وإعلام موجه، وقضاء وظيفي خاضع لا يفتأ يصدر أحكامًا قاسية في محاكمات سرية تفتقد لأبسط شروط العدالة.
في موازاة ذلك، تتسع دائرة الفشل الحكومي في إدارة الشأنين: الاقتصادي والاجتماعي. تعمقت الأزمة، مع تراجع أغلب المؤشرات الحيوية، ما جعل البلاد على مشارف الانهيار، وهو ما انعكس مباشرة على المواطن التونسي، الذي تدهورت معيشته وتراجعت قدرته الشرائية.
وقد ظهرت هذه الأزمة بوضوح في عجز عدد كبير من العائلات التونسية عن شراء أضاحي العيد؛ بسبب ارتفاع أسعارها بما يتجاوز إمكاناتهم.
إضافة إلى أزماتها الداخلية، تواجه تونس عزلة خارجية متزايدة بسبب غياب سياسة دبلوماسية واضحة تقوم على ثوابت الدولة. ويتجلى ذلك في مواقفها المتذبذبة تجاه قضايا إقليمية مختلفة، من بينها موقفها من البوليساريو، وغياب الرئيس عن قمة بغداد، فضلاً عن ضعف التواصل مع السلطة السورية، مما أضعف من استقلالية قرارها على الساحة الدولية.
وتجلّى هذا التراجع الدبلوماسي في اقتصار التهاني لقيس سعيد بعد "فوزه" بدورة رئاسية ثانية في انتخابات 2024 على عدد ضئيل من القادة قد لا يزيدون كثيرًا عن رؤساء: الجزائر، مصر، وإيران.
إعلان
فرص ضائعة.. ومبادرات مقاومة
فوّتت النخب السياسية والمدنية التونسية فرصة مبكرة لمقاومة الانقلاب ليلة ولادته مساء 25 يوليو/ تموز 2021. لم يتحرك كثير منها إلا بعد أن تمدّد الانقلاب وأوغل في التضييق على الحريات، وفي تصفية المنظومة الديمقراطية.
في المقابل، بادر البعض، وأولهم الأستاذ راشد الغنوشي رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة، برفض مبكر لما جرى، واعتباره انقلابًا على الشرعية وعلى المسار الديمقراطي، فيما رأت فيه النخب الأخرى فرصة لإقصاء حركة النهضة من الحكم، ما جعلها تتغاضى عن خطورة الذي حدث و"تفُّهم" تجاوزاته.
في هذا السياق، جاءت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" بعد شهر من الانقلاب، كتحرك مدني سياسي يرفض الحالة الاستثنائية، ويطالب بعودة الشرعية الديمقراطية، ويدعو إلى حكومة إنقاذ وطني، وانتخابات ضمن إطار دستور 2014. وقد طرحت هذه المبادرة رؤية قائمة على احترام الدستور، وحماية الحقوق والحريات، وإطلاق حوار وطني شامل.
مثّلت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" لحظة فارقة في المشهد السياسي التونسي، إذ منحت زخمًا شعبيًا لرفض الانقلاب من خلال تعبئة الشارع الديمقراطي وقيادة العديد من التحركات الاحتجاجية الناجحة، وأسقطت سردية انفراد الانقلاب بالشارع، كما أسهمت في الفرز بين الديمقراطيين والانقلابيين.
لم يقتصر حراك "مواطنون ضد الانقلاب" على تعبئة الشارع الديمقراطي وقيادته فحسب بل تم طرح مبادرة سياسية في ديسمبر/ كانون الأول 2021 مفتوحة أمام كل القوى المدنية والسياسية لإنهاء الحالة الاستثنائية باعتبارها انقلابًا على الدستور والمؤسسات المنتخبة والعودة إلى الوضع الدستوري (دستور 2014) من خلال أجندة سياسية وحوار وطني جامع تحت إشراف جهة مدنية ذات مقبولية من الجميع.
رغم قيمة حمولتها السياسية، واجهت المبادرة صعوبات كبرى نتيجة تعقيدات الواقع السياسي، أبرزها ضعف الدعم الشعبي والانقسام الحزبي. اقتصر التفاعل الإيجابي معها على أحزاب مثل النهضة، وائتلاف الكرامة، وبعض شخصيات من التيار الديمقراطي وحزب العمال.
انحسرت مبادرة "مواطنون ضدّ الانقلاب" وتراجع زخمها وحضورها الميداني، غير أنّ ديناميكية معارضة الانقلاب ظلّت حيّة، وتشكلت هذه المرة في "جبهة الخلاص الوطني"، كتحالف سياسي معارض ذي أفق سياسي وتنظيمي أوسع من مبادرة "مواطنون ضدّ الانقلاب"، وبتحالفات حزبية أكثر وضوحًا.
تأسست "جبهة الخلاص الوطني" في مايو/ أيار 2022، كتحالف سياسي موسّع، يضم أطرافًا حزبية ومدنية في سياق توسّع الحزام المناهض للانقلاب، وتأكد الحاجة إلى توحيد المعارضة الديمقراطية.
تشكلت الجبهة من مزيج من قوى حزبية: (حركة النهضة، حزب قلب تونس، ائتلاف الكرامة، حراك تونس الإرادة، حزب الأمل)، ومن شخصيات وطنية ومدنية: (أحمد نجيب الشابي، جوهر بن مبارك وعدد من المحامين، الحقوقيين، والناشطين السياسيين المستقلين.
قدّمت الجبهة عرضًا سياسيًا يستهدف إنهاء مسار 25 يوليو/ تموز واستعادة الشرعية الدستورية، من خلال: حكومة إنقاذ، انتخابات مبكرة، إصلاح القضاء، ووقف الملاحقات السياسية.
تُعدّ "جبهة الخلاص الوطني" أبرز مكوّن سياسي معارض للانقلاب، رغم محدودية توسّع روافدها السياسية والمدنية. وقد اختارت بقيّة مكوّنات المعارضة عدم الالتحاق بالجبهة، لأسباب ضيّقة تتعلّق بعضويّة حركة النهضة فيها.
إعلان
وفي الوقت الذي تتأكّد فيه الحاجة إلى توحيد صفوف المعارضة ضمن جبهة سياسية موحّدة، تعدّدت الجبهات في ظلّ غياب شبه تام للتنسيق والتعاون فيما بينها.
أخيرًا، مثّلت الانتخابات الرئاسية (أكتوبر/ تشرين الأول 2024) فرصة أخرى أهدرتها المعارضة للالتقاء حول مرشّح ديمقراطي توافقي قادر على منافسة قيس سعيد.
مرّت الانتخابات في غياب أجندة موحّدة للمعارضة لبناء حالة انتخابية وسياسية تستفيد فيها من أخطاء وتجاوزات سعيد وإنجازاته الصفرية وعزوف أغلب الناخبين عن الاقتراع.
رغم نضج هذه المبادرات وأهمية الفرص، لم تتمكن المعارضة من توحيد صفوفها في جبهة شاملة، ما أضعف قدرتها على فرض بديل فعلي يضع حدًّا للانقلاب ويفتح على حالة ديمقراطية جديدة.
مورد جديد: صحوة فكرية
الجديد في هذه الديناميكية أن جزءًا منها تجاوز الحسابات السياسية المباشرة، واتجه إلى أسئلة فكرية وجوهرية عميقة بعضها لم يسبق التطرق إليها. وقد جاءت هذه الصحوة من موارد متعددة أهمها:
- تنوّع المبادرات بين ما هو سياسي مباشر، وما هو فكري يسعى إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي، وتقييم مرحلة الانتقال الديمقراطي بمقاييس جديدة خالية من المواقف الصفرية والأحكام الحادة.
- ظهور تيارات نقدية داخل العائلات الفكرية والسياسية نفسها وسّعت نطاق الجدل بين الإسلاميين والعلمانيين، إلى القيام بمراجعات في صفوف اليسار والقوميين، إلى نقد ذاتي داخل حركة النهضة.
- تقدّم شخصيات فكرية مستقلة ومدونين على الأحزاب التقليدية التي تراجع حضورها في الشارع، ما أتاح للمثقفين المجال لقيادة النقاش في الفضاء العام عبر المنصات الرقمية وضمن أفق أوسع.
تميّز هذا الحراك بطابعه المعرفي العميق، الذي طرح أسئلة مسكوتًا عنها مثل: الهوية الوطنية، العقد الاجتماعي، طبيعة الدولة، العلاقة بين الدين والسياسة، ومفهوم الحداثة في السياق التونسي. كما شهد نقاشًا نقديًا "عقلانيًا" لتجربة الانتقال الديمقراطي.
يُعدّ هذا الانتقال من الخلاف السياسي الصفري إلى الصراع المعرفي من أبرز ملامح الديناميكية الجديدة، لكونه اخترقَ بُنى فكرية كانت محصّنة أو "مُسلّحة"، وفكّك منطلقاتها و"براديغماتها" [نماذجها]، ثم شرع في إعادة بنائها وتشكيلها ضمن سياقات الحالة التونسية، متخففًا من "اليقينيات" غير المثبتة بالتحليل والمصدّقة بالاختبار.
إنّ من شأن هذا الانتقال أن يدفع بالأفكار الحادّة، الواقفة على أطراف المشهد، إلى الانزياح نحو الوسط، بما يجعله أكثر اتّساعًا، وهو ما يُشكّل رافعة صلبة للديمقراطية والاستقرار.
أثر هذه الديناميكية على المشهد العام
تُحدث هذه الديناميكية الفكرية ضمن سياقاتها الوطنية والحزبية والمدنية أثرًا ملموسًا على عدة مستويات:
- ضغط على الأحزاب السياسية لتجديد خطابها وعروضها السياسية، بعدما أصبحت ملاحقة بأسئلة وجودية لم تكن تطرحها من قبل ولا تملك الإجابة الدقيقة عنها.
- صعود جيل جديد من الناشطين ذي حس نقدي، لا ينتمي للأطر الحزبية التقليدية، بل يبحث عن أدوات جديدة للفعل السياسي.
- إعادة تشكيل الوعي السياسي انطلاقًا من السؤال الجوهري: "ماذا نريد من الدولة؟" بعد سنوات من الصراع على السلطة، وهو سؤال تأسيسي لأي مشروع وطني جديد.
هل نحن أمام ربيع فكري حقيقي؟
بالقياس إلى سكون المشهد التونسي خلال السنوات الماضية، فإن ما يحدث حاليًا من تحولات فكرية يمكن اعتباره بوادر ربيع فكري يعيد المعنى لقضايا الحقوق والحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لكن هذا الربيع الفكري لن يكتمل تلقائيًا، بل يحتاج إلى:
- التواصل مع القواعد الشعبية، وخاصة الشباب والنساء، ضروري حتى لا تبقى هذه الديناميكية حكرًا على النخب. ويجب أن تمتدّ هذه الديناميكية لتشمل قوى التغيير الحقيقية في المجتمع، حتى تتحوّل إلى مزاج عام ورافعة لمرحلة جديدة تتعلّق بها أحلام التونسيين في دولة عادلة، ومجتمع آمن، وشعب مرفّه.
- الانتظام في تيارات واضحة من حيث الأفكار الكبرى والعروض السياسية، دون أن يعني التشكّل في أحزاب أو في مشروع فكري جامع.
- التحول إلى بيوت خبرة واقتراح قادرة على التأثير في التشريع والسياسات العامة.
إعلان
تشهد تونس اليوم، رغم الأزمات السياسية والاقتصادية، مخاضًا معرفيًا وفكريًا مهمًا. وإذا ما تمكّن هذا المخاض من الاستمرار والانتظام والتأثير، فقد نكون فعلًا أمام "ربيع فكري تونسي" قادر على إعادة تأسيس العلاقة بين المجتمع والدولة، على أسس جديدة أكثر عدلًا وحرية.
ومثلما كانت تونس ملهمة في إطلاق ربيع الثورات العربية، قد تكون اليوم، في صمتها العميق، بصدد إطلاق تجربة فكرية جديدة تستحق المتابعة والاحتضان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق