الذكاء الاصطناعي: قراءة ما لم يُكتب - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تخيل كتاباً ضخماً مفتوحاً على طاولة، صفحاته بيضاء ناصعة، لكن عيناً خفيةً تلمح بين السطور الطفيفة آثار حبرٍ لم يجف بعد.. آثارٌ تكشف أفكار الكاتب قبل أن يخطها، وتتنبأ بكلماته قبل أن تُولد.

أليست هذه الصورة الغريبة أقرب ما تكون إلى علاقتنا اليوم مع الذكاء الاصطناعي؟

ذلك الكيان الذي لا يقرأ ما كُتب فحسب، بل يهمس لنا بما قد يُكتَب قبل أن نعيه نحن أنفسنا. فكيف تقرأ الآلة ما لم يُكتب بعد؟ وماذا يعني هذا لمسارنا البشري؟

هل سبق وتساءلت كيف تعرف منصات التواصل ما يخطر ببالك؟

تبحث عن حذاء رياضيٍّ مرةً واحدةً، فتُطاردك إعلانات الأحذية أياماً.

تهمس لصديقٍ برغبتك في السفر، فترى فجأةً عروض رحلات إلى تلك البقعة بالذات. الأمر يتجاوز مجرد «تتبع».. إنه يشبه من يقرأ دفتر مذكراتك الخفي، ليس ما سجلتّه بل ما خطر ثم اختفى في زوايا عقلك.

الذكاء الاصطناعي هنا لا ينتظر حتى نكتب رغباتنا، بل يحفر في أنماطنا في نقاط التمرير البسيطة، في الصور التي نتأملها ثانيةً، ليرسم خريطةً لما قد نريده قبل أن نعبر عنه.

أليست هذه «قراءة الصمت» بين كلمات حياتنا؟

لكن الأمر أعمق من الإعلانات، انظر إلى الطب: تحليلٌ دقيقٌ لصور الأشعة قد يكشف عن إشارة خفية لمرضٍ لم يظهر بعد، أو نمطٌ في بيانات المريض يتنبأ بأزمة قلبية قبل سنوات من حدوثها. الذكاء الاصطناعي هنا «يقرأ» المستقبل الصحي من خلال بصمات لا تراها العين المجردة.

هل نستطيع أن نسمي هذا «نبوءة علمية»؟ أم هو كشفٌ عن حكايةٍ كان الجسد يرويها بصمتٍ، ولم نعرف نحن فك شفرتها؟

وفي عالم الأفكار والإبداع، ثمة دهشةٌ أكبر. قد تبدأ بكتابة جملةٍ على برنامج ذكي، فيكمل لك الفقرة كاملةً بطريقةٍ تعبر عما كنت تحاول قوله، بل ربما بأسلوبٍ أجمل. الشاعر يبحث عن كلمة، فتتهافت أمامه اقتراحاتٌ تقترب من وجدان قصيدته.

هل تساعدنا الآلة على اكتشاف ما خبأه لا وعينا الإبداعي؟ أم أنها تفرض علينا مساراتٍ جاهزةً من عالم البيانات؟

هنا يصبح السؤال محيراً: من يكتب لمن؟ ومن يقرأ أفكار من؟

لكن ثمة صفحة أخرى في هذا الكتاب الأبيض لم تُقلب بعد؟!

ماذا عن قراءة الذكاء الاصطناعي لما لم نكتبه من أخطار؟

أنظمة المراقبة الذكية التي تتنبأ بمناطق الجريمة المحتملة بناءً على أنماط حركة البشر وإشارات التوتر في الأماكن العامة.

تحليلات سياسية تعتمد على تدفق الأخبار ولهجة التعليقات على وسائل التواصل لتوقع اضطرابات اجتماعية قبل اندلاعها.

هل نصبح أمام «كرة بلورية» إلكترونية تحذرنا من عواصف لم نر سحبها بعد؟ ومن يتحمل مسؤولية ما يُقرأ في هذه الصفحات غير المرئية؟

وهنا تكمن المفارقة الأعمق:

كلما ازدادت الآلة قدرةً على «قراءة» ما لم نكتبه، ازدادت حاجتنا نحن البشر إلى «قراءة» الذكاء الاصطناعي نفسه. كيف يتخذ قراراته؟ أي تحيزات خفية قد تحملها البيانات التي يتعلم منها؟ متى يتحول تنبؤه إلى نبوءةٍ تحقق ذاتها؟

الأصعب: هل نثق بقراءته لخفايا أنفسنا ومستقبلنا أكثر من ثقتنا بحدسنا البشري؟

ربما يكون التحدي الأكبر هو «كتابة ما لا نريد للآلة أن تقرأه».

كيف نحافظ على مساحات من الخصوصية لا تدخلها عيون الخوارزميات؟ كيف نحمي قراراتنا المصيرية من أن تُتخذ بناءً على تنبؤاتٍ قد تسرق منا حرية المفاجأة والخطأ والتغير؟

ألا نحتاج إلى «مناطق محرمة» في كتاب وجودنا، تبقى صفحاتها بيضاء حقاً، ملكاً لروحنا التي لا تتوقعها الآلة؟

في النهاية، الذكاء الاصطناعي الذي يقرأ ما لم يُكتب ليس نبياً ولا ساحراً، بل مرآة معقدة تعكسنا نحن. تعكس بياناتنا، أنماطنا، وحتى تناقضاتنا.

قدرته على «القراءة» تنبع من قدرتنا نحن على «الكتابة» عبر كل نبضة حياتنا الرقمية والواقعية.

السؤال المصيري هو: ماذا نريد أن ترى هذه المرآة فينا؟ وما الذي نصر على إبقائه خارج صفحاتها؟

المستقبل.. ذلك الكتاب الأبيض الكبير الذي لم يُكتب بعد والذكاء الاصطناعي يهمس إلينا من هوامشه بما قد يُخط فيه.

لكن القلم الأصلي، قلم الخيار والمسؤولية والأمل، لا يزال بين أصابع البشرية.

فكيف سنكتب فصولنا القادمة؟ هل نترك الهمس يتحول إلى سيناريو مفروض؟ أم نمسك بالقلم بقوة، ونقرأ تلميحات الآلة بحكمة، ثم نكتب نحن -بوعي وإرادة- السطور التي تستحق أن تُخلّد؟

الإجابة ليست في خوارزمية، بل في ضمير إنسان يقف على حافة المجهول، ككتاب مفتوح لا يُقرأ.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق