في العاشر من إبريل الماضي، نشرت بجريدة الدستور مقالًا بعنوان "مستقبل أمريكا في ضوء اضطرابات الشخصية الترامبية"، حلّلت فيه ملامح الشخصية السياسية لدونالد ترامب، وتوقّعت - استنادًا إلى معطيات نفسية وسلوكية وسياسية - أن هذه الشخصية لا تحتمل استمرار التحالفات القوية طويلًا، لأنها تميل بطبعها إلى المركزية المطلقة، وتتصادم حتمًا مع كل من يملك نفوذًا مستقلًا، ولو كان حليفًا مخلصًا.
ومن بين ما أشرتُ إليه آنذاك، هو أن إيلون ماسك، الملياردير التكنولوجي الداعم الأكبر لترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، سيتحول إلى خصم علني، وأن الخلاف بينهما سيبدأ في هيئة اختلافات بيروقراطية، ثم يتحول إلى صدام مؤسسي، وصولًا إلى حرب شخصية، تؤثر على الملفات الداخلية، وتُغري الحزب الديمقراطي باستثمار التصدع الجمهوري لاستعادة زمام المبادرة في انتخابات التجديد النصفي القادمة.
ويبدو أن الأيام تثبت دقة ما ذهبنا إليه.
كانت علاقة ترامب بماسك نموذجًا للتحالف النفعي بين المال والسياسة، ترامب يمنح ماسك سلطة تنفيذية لتقليص الإنفاق، وماسك يُضفي على ترامب بُعدًا تكنولوجيًا حديثًا يعوّض فقره الفكري في قضايا الابتكار والرقمنة، وسرعان ما أصبح ماسك رمزًا لما يسمى بـ"حكومة الكفاءة"، عبر الوزارة الخاصة التي أنشئت تحت اسم "دوج"، ويشير الاسم الكامل لـ DOGE - وزارة كفاءة الحكومة - إلى غرضها، والتي تهدف إلى إدارة حكومة الولايات المتحدة بنفس الكفاءة والقسوة التي نراها في شركات التكنولوجيا الرشيقة، وبالفعل فقد أغلقت هذه الوزارة وكالات عديدة، وقلّصت أجهزة، وسرّحت الآلاف في أقل من ثلاثة شهور فقط.
وكما توقعتُ، لم يستمر الوفاق طويلًا. وترك إيلون ماسك منصبه في وزارة الكفاءة الحكومية بعد 130 يوما فقط من تعيينه، وبدأ الخلاف حين انتقد ماسك سياسات ترامب الضريبية، ثم انفجر الصدام بعد أن هدد ترامب علنًا
بقطع كل العقود الحكومية عن شركات ماسك، قائلًا: إن أسهل طريقة لتقليل العجز هي إنهاء مليارات الدولارات من الدعم لماسك.
رد ماسك لم يكن تقليديًا، فالرجل الذي اعتاد مراعاة قواعد اللعب السياسي، قرر الردّ بحدة، وتحدى ترامب، وألمح إلى فضيحة محتملة في ملف جيفري إبستين، حيث اتهم ماسك الرئيس ترامب بالتورط في فضيحة رجل الأعمال الأمريكي المنتحر جيفري إبستين، وكتب ماسك في منشور على منصة "إكس" المملوكة له ما نصه: آن الأوان للمفاجأة الكبرى، اسم دونالد ترامب موجود في ملفات إبستين، هذا هو السبب وراء عدم نشرها.
حيث يشير ماسك إلى وثائق عدة تتعلق بقضية رجل الأعمال جيفري إبستين، المتهم بارتكاب جرائم جنسية واستغلال جنسي، لكنه انتحر في السجن قبل محاكمته عام 2019.
ولم يكتف ماسك بذلك بل أعلن أنه سيسحب مركبة "دراجون" الفضائية التي تعتمد عليها ناسا في رحلاتها، بل وأطلق تهديدًا مبطنًا بأن بقاء ترامب أربع سنوات في الحكم، لا يُقارَن ببقائه هو في الساحة الاقتصادية والسياسية
لعقود، ودعا إلى عزل ترامب، وكان من نتائج هذا الاشتباك أن سهم شركة السيارات الكهربائية المملوكة لإيلون ماسك “تسلا" انهار في البورصة بنسبة 14%، مما أشعل وطيس غضب ماسك، واستمر في هجومه الحاد لفضح سياسات ترامب، مما أضطر معه البيت الأبيض لتخفيف التصعيد مؤقتًا، لكن يبدو أن الخط الفاصل قد تم تجاوزه فعلًا.
إن ترامب - طالما – اعتمد على خلق "الخصم" من أجل تأكيد ذاته. وعندما يكون الخصم من الداخل، أي من رجال الأعمال أو المسؤولين أو حتى حلفائه، فإن آثار المعركة لا تنحصر في العداوة الشخصية، بل تمتد لتضرب صورة ترامب باعتباره الرجل القوي المسيطر على المشهد الأمريكي.
هنا، يفقد ترامب تدريجيًا أهم ركائزه والتي تتمثل في المال والدعم التقني والشعبية غير المؤسسية، إذ أن ماسك لم يكن مجرد موظف في إدارته، بل كان درعًا وواجهة وممولًا ومؤثرًا في قوى "اليمين الجديد" داخل الحزب الجمهوري، وقدرة ماسك الآن على تمويل معسكرات جمهورية مناوئة، أو دفع مستقلين للاصطفاف خلفه، تهدد بتفجير الحزب من داخله.
وكلما فقد ترامب السيطرة على الداخل، بحث عن تعويض خارجي يعيد إليه شيئًا من هيبته السياسية، أو على الأقل يُلهي الرأي العام عن هشاشته الداخلية. وهنا تحديدًا، يبرز الشرق الأوسط.
أعتقد أنه في ظل تآكل شعبية ترامب داخل دوائر النخبة الاقتصادية، سيضطر الرئيس الأمريكي إلى استثمار أدوات السياسة الخارجية لبناء سردية جديدة حول "قيادته الحاسمة للعالم"، خاصة مع تصاعد التهديد الصيني، وتآكل الاستقرار في أوكرانيا، واستمرار الانقسام الأوروبي، وأتصور أن مصر، في هذا السياق، ستكون على الأرجح محورًا جاهزًا لصناعة انتصار سياسي خارجي لترامب، فمصر دولة مستقرة، ولها ثقل جغرافي وتاريخي وديني وعسكري، ولها ملفات تعاون مشتركة مع واشنطن، خاصة في ملف غزة والحدود والبحر الأحمر والطاقة. كما أن استقرار العلاقة مع القاهرة يُظهر ترامب بمظهر "الزعيم المتفاهم مع الشرق" دون الدخول في صدامات عسكرية.
وسواء أعاد ترامب تموضعه تجاه مصر طمعًا في إعادة توثيق شراكة إقليمية، أو لتحجيم الدور التركي والقطري، أو لاسترضاء البنتاجون الذي يرى في القاهرة
شريكًا بالغ الأهمية، فإن النتيجة واحدة وهي أن مصر قد تكون أول المستفيدين من التصدع بين ترامب وحلفائه الأمريكيين.
ما يحدث الآن بين ترامب وإيلون ماسك ليس مجرد خلاف في السياسات، بل هو ارتباك في البوصلة الترامبية، يضع مستقبل ترامب السياسي على المحك، ويجعل من كل خطوة خارجية له اختبارًا لقدراته على الحفاظ على صورته الدولية.
وقد توقعت - منذ شهور - أن هذا التدهور الداخلي في سياسة ترامب سيؤدي به إلى تعويض ذلك عبر علاقات خارجية استراتيجية، وأن مصر ستعود تدريجيًا إلى مكانتها الإقليمية القوية، لا لأن ترامب سيكتشف فجأة قيمتها، بل لأنه لا يملك كثيرًا من الحلفاء المتماسكين في الداخل.
إن ترامب بلا شك سوف يحاول جمع أشلاء سيطرته الرئاسية قبل إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في 3 نوفمبر من عام 2026، والتي ستُجرى في منتصف الولاية الحالية للرئيس الجمهوري دونالد ترامب، حيث سيتم التنافس على جميع مقاعد مجلس النواب الأمريكي البالغ عددها
435 مقعدًا، و33 من أصل 100 مقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي، لإعادة تشكيل الكونجرس في دورته الـ 120، كما سيتم التنافس على 39 منصبا لحكام الولايات والأقاليم أمريكية، بالإضافة إلى العديد من انتخابات الولايات والحكومات المحلية، ويبدو أن هذا الموسم الانتخابي سيكون شديد القسوة على ترامب وإدارته، وأتوقع أن التداعيات المسبقة لهذا الحدث سوف تكون عاملا مهما في تعطيل موجة ترامب الجديدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وأن من يمتلك الاستقرار والمرونة، سيكون الأقدر على انتهاز اللحظة.
ولعلّ القاهرة هي من تتهيأ الآن، سياسيًا وجغرافيًا، لالتقاط زمامها الإقليمي من جديد من خلال تحركاتها الدبلوماسية الذكية التي ترسمها وتنفذها الآن بحنكة ومن خلال ثبات ردود الأفعال المدروسة بما يليق بدولة في وزن مصر.
0 تعليق