قال إن «المندوب السامى الأمريكى» يدير سوريا الآن وليس الجولانى
وسط زحمة الصور ومقاطع الفيديو الواردة من محافظة السويداء الواقعة جنوب سوريا، التى تعرض مشاهد القتل والحرق والخطف والتدمير والإهانات المباشرة لكرامات الناس، خاصة النساء والأطفال وكبار السن ورجال الدين، أبناء محافظة السويداء من الطائفة الدرزية، استوقفنى طويلًا أحد تسجيلات الفيديو، ليس لأنه أكثرها قسوة، بل لأنه يطرح المصيبة بشكل مباشر، شديد البساطة، وعميق الدلالة.
مجموعة من المسلحين يرتدون لباسًا عسكريًا يكشف عن تبعيتهم لوزارة الدفاع السورية، يوجهون بنادقهم نحو رجل مدنى أعزل فى الخمسينات من العمر يجلس على الأرض. أحد الجنود يسأله بلهجته التى تكشف عن أنه ينتمى إلى محافظة إدلب الواقعة شمال سوريا: إيش إنت؟ يجيبه الرجل: أنا سورى يا أخى.. يسأل الجندى مجددًا: إيش يعنى سورى.. يرد الرجل المدنى وهو يرفع يديه ليريهم أنه غير مسلح: سورى يا أخى سورى.. يسأل الجندى بقسوة وأمر: بدوى ولا درزى.. يرد الرجل مستسلمًا: درزى يا أخى.. تنطلق رصاصات الجنود لتخترق جسده وتتركه جثة هامدة على رصيف أحد شوارع السويداء، التى وقف فيها أبناء المحافظة على مدار أكثر من سنة ونصف قبل سقوط النظام السابق، وهم يهتفون نصرة للمدن السورية الثائرة، ويرفعون شعارات مثل: «الشعب السورى واحد، الدين لله والوطن للجميع».
بعيدًا عن كون هذا المشهد وثيقة على ارتكاب جرائم يمكن أن تصنف قانونيًا كجرائم حرب وتطهير طائفى، فإنه يطرح علينا سؤالًا كبيرًا وخطيرًا: «إيش يعنى سورى؟»، أو «ما معنى أن تكون سوريًا».
إذا تجاوزنا مؤقتًا الجريمة المرتبطة بالسؤال لصالح التعمق فيه وتفكيكه، فإننا نجده سؤالًا حافلًا بالدلالات المرتبطة مباشرة بمفهوم الهوية السورية الحالية، أو بدقة أكثر بتشظى وتفتت الهوية السورية. إنه تكثيف واقعى لأزمة بنيوية متعددة الأبعاد تعصف بالمجتمع السورى، ستؤدى حتمًا إلى تفعيل الهويات القاتلة «حسب تعبير وتوصيف أمين معلوف» وسيطرتها على الساحة ليس فقط العسكرية والأمنية، بل أيضًا على منظومة القيم والمرجعيات الثقافية، وبالتالى تدمير أى فرصة على المدى المنظور لبناء عقد اجتماعى سورى.
يُظهر الحوار بين الجنود والرجل المدنى بوضوح كيفية تفعيل الهويات القاتلة فى سياق الحدث السورى. عندما يجيب الرجل: «أنا سورى يا أخى»، ويقابل ذلك بسؤال إلحاحى ومحدد: بدوى ولا درزى؟ قبل إطلاق الرصاص، فإننا نرصد هنا تحولًا جذريًا من الهوية الوطنية الجامعة إلى هوية طائفية ضيقة، تصبح مبررًا للقتل. أى يتم تجريد الفرد من كل أبعاد هويته المتعددة- بوصفه إنسانًا، مواطنًا، ربما أبًا أو زوجًا، لديه أفكار وأحلام وثقافة غنية- ليختزل فى هوية ضيقة وخانقة، هى الانتماء الطائفى، هذه الهوية الطائفية، التى كانت جزءًا ثانويًا من هوية الرجل، تُصبح فجأة هويته الوحيدة التى توقعه ضحية، مقابل هوية الآخر التى تجعله قاتلًا. الأخطر من ذلك، أن الهويات بحد ذاتها تصبح حافزًا ومبررًا للإبادة الطائفية بحق الآخر، وهو فى حالتنا هذه إبادة الأقلية الدرزية.
بالعودة إلى تحليل المشهد، نحن أمام رجل مدنى أعزل فى حالة استسلام تام لمجموعة عسكرية مدججة بالسلاح، مواطن فقد كرامته وكل حقوقه الأساسية التى ينبغى أن تضمنها الدولة، وجنود يرتدون ألبسة عسكرية تكشف عن تبعيتهم لوزارة الدفاع السورية، وبالتالى للدولة السورية التى ينبغى عليها حماية مواطنيها بغض النظر عن أفكارهم ومعتقداتهم وطوائفهم. هذا لا يشير فقط إلى غياب القانون، وضياع العقيدة العسكرية للجيش السورى، بل أيضًا إلى انهيار أخلاقى وإدارى تام لسلطة الدولة ومؤسساتها، وانقلاب دورها من حماية المواطنين إلى الاعتداء عليهم، وتدمير الهوية الوطنية. هذا يُفقد المواطن ليس فى السويداء وحدها، بل فى سوريا كلها، ثقته بالدولة كملاذ وحامٍ، ويرسخ فكرة أن البقاء يعتمد على الانتماءات الفرعية لا على الهوية الوطنية الجامعة. كما أن غياب المساءلة القانونية، والتشجيع على هذه الممارسات يرسخ هذا التصدع، ويبعث رسالة مفادها أن المواطنة لا تمنح حصانة أو حماية.
مثلت الشعارات التى رُفعت سابقًا فى ساحات سوريا بما فيها السويداء: «الشعب السورى واحد»، «الدين لله والوطن للجميع» تطلعات مجتمعية تبنتها كل المكونات، وعبرت عن الوحدة والتعايش السلمى، ويمكن أن نقول إنها شكلت حينها علامة فارقة فى هوية السورى الثائر على النظام الديكتاتورى السابق. ولكن المشهد الحالى يوضح أن هذه القيم قد سُحقت تحت أنظار السلطة الحالية وربما بمشيئتها. يمكننا أن نرى ذلك واضحًا فى تغطية الإعلام الرسمى المنحازة للأحداث الحالية، وفى تصريحات المسئولين، وأهمها كلمة رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع بتاريخ ١٩/٧ التى يمدح فيها موقف العشائر، ويصفه بالموقف المشرف إلى جانب الدولة، ويشكرها على مساندتها وقيمها، مع أن الجميع يعلم أن تلك العشائر انطلقت من دوافع طائفية، ومارست إبادة وتنكيلًا وتجاوزات قانونية وإنسانية تعد جرائم حرب وتصفية.
التغير السريع والمفاجئ فى قيم الثورة السورية التى استمرت نحو أربعة عشر عامًا، لصالح قيم راديكالية إسلامية، تشبه القيم التى يعتنقها تنظيم القاعدة وداعش، يكشف عن هشاشة النسيج الاجتماعى وسطحية الشعارات الثورية، كما يعبر عن خطاب مزدوج كان موجودًا تحت السطح، ويقود الآن إلى انهيار العقد الاجتماعى السورى.
المذبحة المنفذة باسم الأكثرية السنية بحق طائفة الدروز الصغيرة، وقتل أبنائها بسبب انتمائهم الدينى، دفع أبناء تلك الطائفة إلى التمسك بهويتهم الدينية، الانتصار لإخوتهم وأقاربهم، الدفاع عن أنفسهم، والقتال تحت راية دينية كانت قبل فترة قصيرة لا تخرج من المعابد. لقد أصبحت الهويات الفرعية المحرك الأساسى للعنف، وفقدت الشعارات الوطنية الجامعة معناها، وبالتالى تفككت الروابط المجتمعية الأساسية، وفُتح الباب أمام المزيد من العنف والانقسام، وباتت محاولات المصالحة وإعادة البناء أكثر صعوبة.
أخيرًا أشير إلى أن دلالات تصوير المشهد من قبل الجنود ونشره على وسائل التواصل الاجتماعى، تكشف عن وجود احتضان مجتمعى لهذا النمط من السلوك المنحرف نفسيًا، والشاذ اجتماعيًا، دون خوف من الملاحقة والمحاسبة القانونية، وهذا ما يظهر حجم وعمق الكارثة التى وصلت سوريا إليها.
0 تعليق