هل تشتبك إسرائيل مع تركيا في سوريا؟ - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الأحد 20/يوليو/2025 - 01:18 م 7/20/2025 1:18:16 PM

بتغير توزيع القوة في المنطقة، مع فقدان إيران نفوذها النسبي، فإن التنافس المتصاعد بين تل أبيب وأنقرة لم يعد مسألة (هل) بل (كيف).. وليس السؤال الآن عما إذا كانا سيختاران التنافس، بل كيف سيتعاملان معه: من خلال المواجهة أم الإدارة السلمية؟.
بعد نهاية الحرب الباردة نشأ وضع مماثل: فقد غيّر انهيار الاتحاد السوفيتي بشكل كبير التوزيع العالمي للقوة، وأعادت هزيمة العراق في حرب الخليج ترتيب الأوراق الجيوسياسية الإقليمية.. وتشكَّل هيكل إقليمي ثنائي القطب، ناشئ مع ظهور إيران وإسرائيل كقوتين رئيسيتين، دون وجود حاجز فعال بينهما (منذ هزيمة العراق).. وقد تحرك الإسرائيليون بناءً على هذا أولًا، وعكسوا الاستراتيجية التي وجهتهم على مدى العقود السابقة: مبدأ المحيط.. ووفقًا لهذا المبدأ، ستبني إسرائيل تحالفات مع الدول غير العربية في محيطها (إيران وتركيا وإثيوبيا)، لموازنة القوى العربية في جوارها (العراق وسوريا ومصر على التوالي).. لكن بعد عام ١٩٩١، لم يبقَ أي دولة عربية تُشكِّل تهديدًا عسكريًا تقليديًا لإسرائيل.. ونتيجةً لذلك، تحوَّل تركيز إسرائيل إلى إيران.. وقرَّر صناع القرار الإسرائيليون أن التهديد الجديد لإسرائيل لم يعد يتمثل في الجوار العربي، بل في المحيط الفارسي.
الغريب، بالطبع، أن إسرائيل لم تعتبر عداء إيران لها طوال ثمانينيات القرن الماضي عاملًا حاسمًا، إذ انصبّ تركيزها على العراق والدول العربية.. في الواقع، سعت إسرائيل طوال عهد الخميني إلى إعادة بناء علاقاتها مع إيران، ورغم رفض النظام الديني لها، ضغطت إسرائيل على واشنطن للتحدث مع إيران، وبيعها الأسلحة، وتجاهل خطاب إيران المعادي لإسرائيل، لأنه لم يكن يعكس سياسات طهران الحقيقية.. في البداية، فوجئت إيران بالتحول الإسرائيلي.. في ذلك الوقت، كان حماسها الثوري يتراجع بسرعة، وكانت حكومة رافسنجاني تسعى جاهدةً إلى بناء علاقات أفضل مع الولايات المتحدة، للحصول على استثمارات وفرص اقتصادية.. عرضت على الولايات المتحدة الوصول إلى حقول النفط الإيرانية، وسعت إلى المشاركة في المؤتمرات الرئيسية الهادفة إلى إرساء النظام الجيوسياسي في المنطقة.. لكن واشنطن رفضت إيران واستُبعدت من مؤتمر مدريد.
بدلًا من ذلك، أقنعت إسرائيل واشنطن بأنه لتحقيق السلام مع الفلسطينيين، يتعين على الولايات المتحدة تحييد التهديد الجديد الذي تواجهه إسرائيل ـ الأصولية الإسلامية الإيرانية ـ من خلال فرض عقوبات على إيران وعزلها.. وكما قال مارتن إنديك، كلما أمكن تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ازدادت عزلة إيران.. وكلما ازدادت عزلة إيران، ازداد السلام بين الإسرائيليين والعرب.. وهنا يبدأ التنافس الإسرائيلي ـ الإيراني الحقيقي.. ردّت طهران باستهداف ما اعتبرته الحلقة الأضعف في الاستراتيجية الإسرائيلية ـ الأمريكية لعزل إيران: عملية أوسلو.. إذا تم تخريب عملية السلام، فلن يتحقق أيٌّ من الأهداف الأخرى للولايات المتحدة وإسرائيل.. في هذه اللحظة، بدأت إيران بدعم الجماعات الفلسطينية الرافضة بجدية (ظلت علاقاتها مع حماس متوترة لبضع سنوات أخرى، حتى اغتيال الشيخ أحمد ياسين على يد إسرائيل عام ٢٠٠٤).
قاد منطق هذا التنافس الاستراتيجي كلا الدولتين على مدى العقود الثلاثة الماضية: سعت إسرائيل إلى عزل إيران وفرض عقوبات عليها، ومنع الدبلوماسية الأمريكية ـ الإيرانية، وإحباط أي اتفاق أمريكي ـ إيراني محتمل، ودفع الولايات المتحدة إلى خوض حرب مع إيران.. تحدت طهران إسرائيل على كل الجبهات، وسلحت ودربت جماعات معادية لإسرائيل، وسعت على مضض إلى التخلص من العزلة التي فرضتها إسرائيل بنجاح على إيران، من خلال إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة.. بينما قامت إسرائيل بإضعاف محور المقاومة الإيراني إلى حدٍّ كبير، وهي على وشك ترسيخ هيمنة جوية مستدامة على إيران.. قد لا تنجح في ذلك، لكنها حسّنت موقعها بشكلٍ كبير.. وقد أصبح الإثنان في موقف هجومي ـ دفاعي.. ورغم أن هذا التنافس لم ينته بعد، وأن إسرائيل بعيدة كل البعد عن أن تكون المنتصر الواضح، فإنها بدأت بالفعل تنظر إلى الدولة التالية التي تحتاج إلى إخضاعها من أجل تحقيق الهيمنة العسكرية في الشرق الأوسط: تركيا، (فإن عقيدة إسرائيل هي تحقيق الأمن، ليس من خلال التوازن، بل من خلال الهيمنة).
انتصار تركيا في سوريا يدفعها إلى عمق اهتمام إسرائيل.. لكن تركيا تختلف عن إيران: فهي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومجموعة العشرين، ولا يُفرض عليها عقوبات بسهولة، وهي قوة سُنية ذات قوة ناعمة في الشرق الأوسط الأوسع، تفوق ما تمتعت به إيران الشيعية على مدى السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية.. وبالطبع، لدى تركيا نقاط ضعف عديدة، منها الحركة الانفصالية الكردية.. ولكن، ما دامت إسرائيل تعتقد أن أمنها لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الهيمنة العسكرية على كل جيرانها، الذين يمكن أن يشكلوا تحديًا لها ـ أي أولئك الذين لديهم القدرة على القيام بذلك، بغض النظر عما إذا كانت لديهم النية أم لا ـ فإن ظهور تركيا كقوة في المنطقة، سوف يضعها في مرمى نيران إسرائيل، سواء شاءت ذلك أم أبيت.. صحيح، لا يمكن القضاء على القوى الجيوسياسية، بل في أحسن الأحوال يمكن ترويضها فقط.
ومنذ أن هاجمت حماس إسرائيل قبل نحو عامين، استمرت العلاقات بين تركيا وإسرائيل في التدهور.. في الأسابيع والأشهر التي تلت ذلك، دافع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان مرارًا عن حماس، واصفًا إياها بمنظمة تحرير تدافع عن وطنها، كما استقبل مسئولين من حماس في قصره الرئاسي.. بالإضافة إلى ذلك، دارت مشاحنات كلامية متكررة بين إردوغان ووزير الخارجية الإسرائيلي، إسرائيل كاتس.. وشُبّه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بالزعيم النازي هتلر، واعتبر ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين في قطاع غزة إبادة جماعية.. وردّ كاتس بأن إردوغان يرتكب مجازر مستمرة بحق الأكراد في المنطقة.. كما وصف الرئيس التركي بـ (المعادي للسامية) و(الديكتاتور) الذي سار على خطى صدام حسين.. وبحسب إردوغان، فإن إسرائيل تريد مهاجمة تركيا أيضًا.. وبعد أن شنت إسرائيل هجومها البري على لبنان  عزز إردوغان موقفه.. وقال في خطابه أمام البرلمان التركي، (المكان الذي ستركز فيه الحكومة الإسرائيلية، في جنونها بـ (أرض الميعاد)، على فلسطين ولبنان، أقول هذا بوضوح تام، سيكون وطننا).. وأضاف أن هذا هو حساب الدولة اليهودية بالكامل.. نتنياهو يضيف الأناضول إلى أحلامه.. حذّر إردوغان، في خطابه، من حياد تركيا، (أُناشد من يدعون تركيا إلى الحياد، ومن يعتبرون حماس منظمة إرهابية: لسنا نتعامل مع دولة، بل مع عصابة من القتلة تقتات على الدماء.. نحن نتعامل مع شبكة احتلال تريد إشعال المنطقة بأكملها).. على المجتمع الدولي أن يوقف إسرائيل فورًا.
وفي خطابه في معرض (تكنوفيست) للطيران والتكنولوجيا بأضنة، انتقد إردوغان إسرائيل مجددًا.. وقال، (في كل مرة يسود فيها وقف إطلاق نار وسلام في المنطقة، تُقدم إسرائيل على استفزازات لتنشيط هذه العملية.. إنها تستخدم كل الوسائل لإغراق جغرافيتنا بالدموع.. لقد نُفذت خطة خبيثة، لن تقتصر على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان)، ليس بالضرورة أن يكون المرء (عرَّاف) ليدرك (الهدف النهائي).. وانتقد حلفاء إسرائيل، (كل قطرة دم تُسفك، تقع على عاتق من يُزود بالقنابل ومن يُسقطها على حد سواء.. نحن نتعامل مع حالة من الجنون تتلذذ بقتل الأطفال الرضع.. وللأسف، يواصل الغرب دعم شبكة المجازر هذه).
●●●
على هذه الخلفية، تشعر إسرائيل بقلق متزايد إزاء التطورات في سوريا، واحتمال سيطرة تركيا عليها، وهو ما قد يشكل تهديدًا جديدًا كبيرًا لإسرائيل، كما يرى الكاتب الإسرائيلي، يوني بن مناحيم، الذي يقول إن إردوغان يسعى إلى استخدام الإسلام الجهادي كوسيلة للإسلام السياسي، بهدف ترسيخ نفوذه في سوريا، وفي أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، أعرب كبار المسئولين الأمنيين الإسرائيليين عن قلقهم إزاء التدخل التركي المتزايد في المنطقة.. وبحسب تقرير لجنة (جاكوب ناجل) بشأن ميزانية الدفاع الإسرائيلية، الذي نُشر في السادس من يناير الماضي، فإن طموحات تركيا (لإعادة التاج العثماني إلى مجده السابق)، تشكل تحديًا أمنيًا ملحًا لتل أبيب.
يُسلّط التقرير الضوء على احتمالية ظهور تهديدات جديدة لإسرائيل، نتيجةً للتغيرات في المشهد السوري، وعلى إمكانية استبدال حكومة الأسد بنظام سوري متطرف ذي أيديولوجية معادية لإسرائيل.. ويحذر التقرير من أن هذا السيناريو قد يكون أشد خطورة من التهديد الإيراني، نظرًا لقرب سوريا الجغرافي وأهميتها الاستراتيجية.. فالوجود العسكري التركي وطموحاته السياسية في سوريا قد يزعزعان استقرار المنطقة، ويخلقان تحديات أمنية مباشرة لإسرائيل.. ونبه التقرير من سيناريو تقوم فيه تركيا برعاية قوات سورية بالوكالة معادية لإسرائيل، وهو ما يؤدي فعليًا إلى توسيع نفوذ تركيا وزيادة عدم الاستقرار الإقليمي، خصوصًا وقد أثار خطاب إردوغان خلال المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية، مخاوف بشأن نواياه في سوريا، إذ قال، (لو لم تُقسّم المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، لكانت مدن مثل حلب والشام وحماة وحمص لا تزال جزءًا من تركيا).
إلا أن ما يجب الوقوف أمامه، هو أن هجوم حماس على إسرائيل، وسقوط الرئيس السوري بشار الأسد، أعادا تشكيل النظام الإقليمي، بطرق أجبرت تركيا على إعادة تقييم سياستها الخارجية.. فبعد سنوات من العزلة الإقليمية، عقب فشل مساعيها للهيمنة خلال ما سُمي بـ (الربيع العربي)، أعادت تركيا تنظيم نفسها استراتيجيًا، مع جهود المصالحة التي تقودها دول مجلس التعاون الخليجي، وبرزت كلاعب داعم رئيسي في هيكل إقليمي جديد، يُعطي الأولوية للحلول الدبلوماسية والاقتصادية على المواجهات العسكرية، كتلك التي تسعى إليها إسرائيل حاليًا.. ويمثل إعادة التقييم هذا، اعترافًا عمليًا بالقيود المالية لتركيا، بينما تستفيد من نفوذها الفريد في سوريا، ما بعد الأسد لتأمين دور فعّال في تشكيل مسار المنطقة.
ولا يمكن فهم الوضع الإقليمي الحالي لتركيا إلا على خلفية محاولتها الطموحة، ولكن الفاشلة في نهاية المطاف، لترسيخ نفسها كقوة مهيمنة إقليمية خلال ما سُمي بـ (الربيع العربي)، أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.. ففي أعقاب الفوضى العربية عام 2011، تصورت حكومة حزب العدالة والتنمية، بقيادة الرئيس رجب طيب إردوغان، شرق أوسط تتولى الأحزاب المتحالفة أيديولوجيًا مع تركيا السلطة فيه، مما يرفع بطبيعة الحال من قيادتها الإقليمية.. واعتمدت أنقرة، في البداية، على القوة الناعمة والتحالفات السياسية، ثم تحول نهجها نحو موقف أكثر حزمًا وعسكرة، مع تعثر زخم (الربيع العربي)، وتحول النتائج السياسية إلى نتائج غير مواتية.. وبحلول أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين، فقدت الحركات الإسلامية التي تدعمها تركيا، وخصوصًا تلك المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، أرضيتها السياسية، مما ترك البلاد معزولة بشكل متزايد.. وكانت هذه العزلة واضحة بشكل خاص في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث أدت تكتيكات أنقرة العدوانية إلى نفور الحلفاء المحتملين، وأدت إلى استبعادها من المنصات الإقليمية،مثل منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط.. وظلت قطر شريكتها الثابتة الوحيدة، فضلًا عن الحكومة الليبية التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها، برئاسة عبد الحميد دبيبة، في حين انخرطت جهات فاعلة إقليمية أخرى في أشكال جديدة من التعاون أدت صراحة إلى تهميش تركيا.
وإدراكًا منها لعدم إمكانية استمرار عزلتها الإقليمية، بدأت تركيا تحولًا جذريًا في استراتيجيتها الإقليمية بحلول عام 2021.. تزامن هذا التحول مع توجهات أوسع للمصالحة الإقليمية، بما في ذلك توقيع اتفاقيات إبراهام عام 2020، وإعلان العلا عام 2021، الذي أنهى المقاطعة مع قطر، ومبادرات دبلوماسية إيرانية ـ سعودية مختلفة.. مثلت جهود المصالحة التركية اعترافًا عمليًا بأن نهجها السابق، القائم على المواجهة قد فشل في خدمة مصالحها الوطنية، وأنها تفتقر إلى الوسائل المالية والجيوسياسية اللازمة للحفاظ على موقف إقليمي حازم إلى أجل غير مسمى.
بدأت عملية المصالحة بمحاولات تركيا لإصلاح علاقاتها مع خصومها السابقين، بما في ذلك مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل، وحتى سوريا.. كانت دوافع تركيا لهذا التحول الاستراتيجي متعددة الأوجه، لكن دوافعها الرئيسية كانت الضرورة الاقتصادية.. وقد أجبرت الأزمة الاقتصادية المستمرة في البلاد، والتي اتسمت بتضخم جامح، وعجز مزمن في الحساب الجاري، وانخفاض قيمة الليرة، ونضوب احتياطيات النقد الأجنبي، تركيا على التدخل، وجعلت الخليج محور هذه السياسة المصالحة.. وفي هذا السياق، شكّلت جولة الرئيس إردوغان الخليجية عام ٢٠٢٣، عقب إعادة انتخابه، والتي شملت زيارات إلى السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، محطة مهمة في هذا التعافي الدبلوماسي.. وأسفرت هذه الزيارات عن توقيع اتفاقيات اقتصادية هامة، حيث أعلنت تركيا عن اتفاقيات إطارية للاستثمار الثنائي مع الإمارات العربية المتحدة تتجاوز قيمتها خمسين مليار دولار.
بناءً على هذه الانفتاحات الدبلوماسية، حققت جهود المصالحة التركية نجاحًا جزئيًا، مما مكّنها من إعادة الاندماج في الدبلوماسية الإقليمية.. إلا أن الهجمات التي قادتها حماس في السابع من أكتوبر 2023، والحرب الإسرائيلية اللاحقة على غزة، إلى جانب انهيار نظام الأسد في سوريا في ديسمبر 2024، أدخلت مجموعة جديدة من الديناميكيات التي بدأت بإعادة تشكيل النظام الإقليمي الناشئ، أصبح بموجبها، هناك ثلاثة ديناميكيات أساسية تحدد الآن النظام المتطور في الشرق الأوسط..
١. برزت دول الخليج، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، كقوى إقليمية مهيمنة.. يعكس هذا الصعود الخليجي، الموارد الاقتصادية لدوله وتحسن علاقتها مع الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي يُعطي الأولوية للعلاقات النفعية.. تُركز رؤية الخليج على منطقة خالية من الصراعات، حيث تكون للتجارة والدبلوماسية الأولوية على المواجهة العسكرية.. يُمثل هذا انحرافًا عن معارضة دول الخليج السابقة للتفاعل الأمريكي ـ الإيراني؛ إذ تدعم الرياض الآن التطبيع الدبلوماسي مع طهران، مما يعكس توجهًا أكثر براجماتية.. أصبح النظام الإقليمي المثالي للخليج، هو نظام ما بعد الصراع، ومتكامل تجاريًا، ومتماشي في الغالب مع الغرب.
٢. أصبحت إسرائيل القوة الأكثر اضطرابًا في المنطقة.. ومن المفارقات أنها كانت تُعتبر في السابق جزءًا أساسيًا من الإطار الإقليمي الناشئ.. من خلال اتفاقيات إبراهام، بدأت إسرائيل بالاندماج في الشرق الأوسط الأوسع، وتطبيع العلاقات مع العديد من الدول العربية.. تركيا، على الرغم من الاعتراضات الأولية عام ٢٠٢٠، لم تُعارض هذا المسار في إعادة تقييمها لما بعد عام ٢٠٢١، بل سعت إلى مصالحة ثنائية مع إسرائيل.. وكان من المتوقع أن يكون الجزء الأخير من أحجية التطبيع هذه، هو ضم المملكة العربية السعودية، وهي نتيجة بدت معقولة بشكل متزايد بحلول منتصف عام ٢٠٢٣.. ومع ذلك، فإن هجمات حماس والرد الإسرائيلي اللاحق، قد عطلت هذا المسار.. لم تكن الهجمات نفسها، ولكن الرد العسكري الإسرائيلي الساحق والمُطول، والذي اتسم بجرائم حرب واسعة النطاق، هو الذي أخرج الإجماع الناشئ عن مساره.. لقد أدى الموقف العدواني لإسرائيل ـ الذي يسعى إلى إطالة أمد الصراع وإضفاء طابع إقليمي عليه ـ إلى زعزعة استقرار النظام الإقليمي، وخلق توترًا أساسيًا، بين الرؤية التي يروج لها الخليج للاستقرار وتفضيل إسرائيل للمواجهة الدائمة. وقد كان هذا التحول مدفوعًا بمزيج من الثقة المفرطة الاستراتيجية والحسابات السياسية قصيرة المدى، ولا سيما اعتماد رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، على الأزمة الدائمة للحفاظ على السلطة.. علاوة على ذلك، فإن النجاحات العسكرية لإسرائيل ضد حزب الله ودورها في تسهيل سقوط نظام الأسد، قد خلقت حالة من التسمم العسكري الذي شجع على سياسات عدوانية متزايدة.. وقد تعزز هذا النمط في يونيو 2025، عندما شنت إسرائيل حملة عسكرية موسعة ضد إيران.. وقد أكدت العملية، دور إسرائيل كقوة متهورة لزعزعة الاستقرار، وتزيد من حدة التوترات في بنية إقليمية هشة بالفعل.
٣. في ظل الضغوط المالية وإدراكها لمحدودية نفوذها، أيدت تركيا إلى حد كبير الرؤية الإقليمية التي يقودها الخليج.. لم تعد تسعى إلى تشكيل المنطقة بشكل أحادي، بل أصبحت شريكًا بنّاءً للخليج.. ومن العوامل الرئيسية التي تُسهّل هذا التكيّف، التوجه الاقتصادي المتزايد للسياسة الخارجية التركية.. ففي مواجهة أزمات مالية مستمرة، عادت أنقرة إلى نهج براجماتي يُركّز على الاقتصاد في دبلوماسيتها، مُستعيدةً بذلك أنماطًا من حقبة ما قبل (الربيع العربي).. وقد أدى هذا التحول إلى تقريب مصالح تركيا من دول الخليج، التي ترتكز أجندتها الإقليمية أيضًا على الاستقرار الاقتصادي والاستثمار وخفض التصعيد.
بالإضافة إلى الأولويات الاقتصادية المشتركة، تتفق تركيا ودول الخليج في قلقها المتزايد من موقف إسرائيل المُزعزِع للاستقرار.. وبينما استجابت كلٌّ من تركيا والخليج في البداية لحرب إسرائيل على غزة بضبط النفس، تبنّت الرياض وأنقرة في نهاية المطاف موقفًا أكثر انتقادًا، مدفوعين بالضغط الشعبي والتصعيد الإسرائيلي المستمر وجرائم الحرب الموثقة.. علاوة على ذلك، تشترك تركيا والخليج في أهداف عامة في سوريا وفي نهجهما تجاه إيران.. كيف؟.
ربما منح سقوط نظام الأسد تركيا، أهم ميزة استراتيجية لها في المعادلة الإقليمية الجديدة.. ففي السابق، حافظت تركيا على مكانتها في سوريا، من خلال احتلال أجزاء من الأراضي، والعمل كقوة موازنة لكل من الأسد والقوات التي يقودها الأكراد في شمال سوريا.. ومع ذلك، فشلت في تحقيق تطبيع كامل للعلاقات مع دمشق.. وقد أدى ظهور إدارة سورية جديدة بقيادة سُنية، بدعم من أنقرة، إلى تغيير جذري في موقف تركيا.. فالقيادة السورية الجديدة، المعتمدة على الدعم التركي، منحت تركيا نفوذًا غير مسبوق على المسار السياسي السوري.
ويتعزز نفوذ تركيا في سوريا بفضل اصطفافها مع دول الخليج، وخصوصًا السعودية.. تتشارك كلتا القوتين رؤيةً لسوريا بعد سقوط الأسد، رؤية تُهمّش النفوذ الإيراني وتُعزّز النفوذ السُني في دمشق.. وبينما تستطيع تركيا تقديم الخبرة العسكرية والتقنية، إلا أنها تفتقر إلى الإمكانيات المالية.. على النقيض من ذلك، تُقدّم المملكة العربية السعودية الموارد المالية، لكنها تفتقر إلى القدرة على بناء الدولة والمشاركة الميدانية.. وقد سهّل هذا التقسيم الطبيعي للعمل وتقارب المصالح التعاونَ بدلًا من التنافس، حيث قام الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، بأول زيارة رسمية له إلى المملكة العربية السعودية، مع الحفاظ على تنسيق وثيق مع تركيا.. إذ تولّت المملكة العربية السعودية زمام المبادرة الدبلوماسية، ويتجلى ذلك في دورها المحوري في تسهيل لقاء الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالشرع، الذي أعلن خلاله الرئيس الأمريكي رفع عقوبات رئيسية عن سوريا.. في المقابل، قبلت تركيا دورًا أكثر دعمًا في سياق هذه العملية.. وهذا لا يعكس فقط أهمية السعودية المالية، بل يعكس أيضًا قدرتها المتزايدة على التأثير على واشنطن، وهو أمرٌ تعجز أنقرة، على الرغم من علاقة إردوغان بترامب، عن مواكبته.
يخدم دور تركيا في سوريا أيضًا أهدافًا استراتيجية إقليمية أوسع، لا سيما فيما يتعلق بالنفوذ الإيراني.. ويتماشى التزام الحكومة السورية الجديدة بمنع نقل الأسلحة الإيرانية عبر الأراضي السورية، ومعارضتها للجهات الفاعلة غير الحكومية المدعومة من إيران، مع المصالح الاستراتيجية التركية والخليجية.. وقد ساهم هذا في وضع تركيا كشريك رئيسي في جهود احتواء النفوذ الإقليمي الإيراني، إذ طالما تأرجحت علاقة تركيا بإيران بين التعاون المحدود والتنافس المُدار.. فبين عامي 2016 و2021، شهدت الدولتان فترةً من التقارب البراجماتي غير المعتاد، مدفوعةً بالإحباط المتبادل من الولايات المتحدة وحلفائها.. ومع ذلك، كشف تحول تركيا بعد عام 2021، نحو الأنظمة المتحالفة مع الغرب، عن مجالات التنافس الطبيعية بين القوتين الإقليميتين.. وقد تجلى هذا التحول بشكل دراماتيكي في سوريا، حيث جاءت مكاسب تركيا على حساب إيران.. ويمثل سقوط الأسد، الحليف الإقليمي الرئيسي لإيران، خسارةً استراتيجيةً كبيرةً لطهران، بينما يمنح تركيا نفوذًا إقليميًا معززًا، تريد، من خلاله، أن يكون لها موقفان متعارضان تجاه إسرائيل.
●●●
فرغم أن تركيا حليفة قديمة لإسرائيل، فقد أصبحت في عهد رجب طيب إردوغان أكثر انتقادًا لأفعال إسرائيل تجاه الفلسطينيين، ولكن دون التخلي عن المصالح الاستراتيجية الأوسع لأنقرة.. لكن التوترات بين هذين الحليفين القديمين، واللذين غالبًا ما يُنظر إليهما على أنهما الفائزان الأكبر في سقوط بشار الأسد، تمتد الآن إلى الوضع في سوريا، كما يقول أريان بونزون، في (لوموند ديبلوماتيك).
داخليًا، قد تكون القضية السورية ـ وإصرار أنقرة على الحفاظ على نفوذ قوي فيها ـ موضع خلافات بين حكومة إردوغان القومية الإسلامية ومعارضيها؛ وقد يُفسر ذلك جزئيًا سجن منافس الرئيس الرئيسي، أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الذي يحظى بشعبية واسعة وعضو حزب الشعب الجمهوري.. لكن حزب المعارضة الرئيسي ينظر أيضًا إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل مختلف عن حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوغان.. في هذه القضية، يتعين على حزب العدالة والتنمية أن يأخذ في الاعتبار، اعتدال منافسه في حزب الشعب الجمهوري، الذي يكتسب أرضية، وضغط الجناح الأكثر تطرفًا في الإسلام السياسي، وتردده.
يوضح الخبير العسكري جاريث جينكينز، (طالما هيمن الجيش على السياسة التركية، حتى عام ٢٠٠٧ تقريبًا، ظلت أنقرة حليفًا لتل أبيب).. تركيا، التي تضم جالية يهودية كبيرة، اعترفت بدولة إسرائيل منذ عام ١٩٤٩، متقدمةً على جميع الدول الأخرى ذات الأغلبية المسلمة.. وبصفتها مركزًا متقدمًا للكتلة الغربية خلال الحرب الباردة وعضوًا في حلف الناتو منذ عام ١٩٥٢، سعت تركيا إلى موازنة النفوذين العربي والسوفييتي في الشرق الأوسط.. في غضون ذلك، كما يوضح يوان مورفان، الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي،(في خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت سياسة إسرائيل تتمثل في تجاوز الدول العربية، مفضلةً تركيا بدلًا منها، إلى جانب الأكراد وإيران).
كانت تسعينيات القرن الماضي بمثابة فترة انتعاش في العلاقات بين جيشي البلدين.. ففي مواجهة حزب العمال الكردستاني (المؤيد للاستقلال والماركسي) وصعود الإسلام السياسي، وفي ظل حظر الأسلحة الأوروبي والأمريكي، احتاجت أنقرة إلى مساعدات عسكرية من تل أبيب.. وقد أبدى جنرالات تركيا إعجابهم بالجيش الإسرائيلي: يُسلّط جينكينز الضوء على حماس الأمين العام لمجلس الأمن القومي التركي، دوجان بايزيد، الذي حسد (قرب الجيش الإسرائيلي من الشعب) و(دوره القيادي في المجتمع).. وما إن تولى السلطة عام ١٩٩٦، حتى وجد رئيس الوزراء الإسلامي، نجم الدين أربكان، نفسه مُجبرًا من قِبَل كبار القادة على توقيع اتفاقيات تعاون عسكري وتجارة حرة مع إسرائيل.. ولم يكن هذا التقارب الثنائي موضع ترحيب في واشنطن.
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام ٢٠٠٢، تدهورت العلاقة.. كانت حماس تُعتبر الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، التي تنتمي إليها بعض أحزاب حزب العدالة والتنمية.. في عام ٢٠٠٤، اغتالت إسرائيل المرشد الروحي لحماس، أحمد ياسين، والعضو المؤسس عبد العزيز الرنتيسي.. بعد عامين، بدا فوز حماس في الانتخابات التشريعية في غزة في أنقرة، بمثابة فوز شخصي لإردوغان: كان إردوغان، رئيسًا للوزراء آنذاك، ولكنه كان بالفعل الرجل القوي في البلاد، وقد قدّم المشورة لحماس بشأن استراتيجيتها الانتخابية.. لم تعترف الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي بالانتخابات، مما سمح لتركيا بأن تُقدّم نفسها كضامن للديمقراطية في المنطقة.
في ديسمبر 2008، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، نظيره في أنقرة.. كانت إسرائيل على وشك شن عملية (الرصاص المصبوب)، وهي هجوم بري وجوي على غزة، ردًا على إطلاق حماس صواريخ على الأراضي الإسرائيلية.. أسفرت العملية عن مقتل ألف وأربعمائة فلسطيني وثلاثة عشر إسرائيليًا.. قال دبلوماسي تركي، (لقد شعرنا بالإهانة.. ما كان بإمكان أولمرت أن يحضر، أو على الأقل أن يحذرنا مما يُحضّر له).. في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس في الشهر التالي، انتقد إردوغان العملية ووصف الرئيس شمعون بيريز بـ (قاتل الأطفال).. وبينما كانت كاميرات العالم تُصوّب عليه، وغاضبًا من مقاطعته، طالب إردوغان مرارًا وتكرارًا بـ (دقيقة واحدة) لإنهاء بيانه قبل أن يغادر المنصة غاضبًا.. عززت هذه الحادثة شعبيته في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وجاء هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، في الوقت الذي كانت تركيا تستعد فيه لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.. لم يُدِن إردوغان الهجوم ورفض استخدام مصطلح (إرهابي)، واصفًا حماس بأنها (مجموعة من المقاتلين من أجل الحرية الذين يسعون لحماية أرضهم).. اعتقدت تركيا أنها بحاجة إلى استخدام ورقة معادية لإسرائيل ومناصرة لفلسطين، لتبدو لاعبًا رئيسيًا في العالم العربي.. في الواقع، كان أحمد داود أوغلو، أكثر من إردوغان، المفكر الأيديولوجي، ومؤسس مبدأ (العمق الاستراتيجي)، ثم مستشاره، ثم وزير خارجيته، ثم رئيس الوزراء، هو من أعاد توجيه السياسة الخارجية التركية، منذ عام ٢٠٠٧، لصالح جماعة الإخوان المسلمين.
بعد ثلاث سنوات، وقعت حادثة مافي مرمرة.. بناءً على طلب داود أوغلو (الذي لم يكن إردوغان متحمسًا للمبادرة)، حاولت سفينة تركية مستأجرة من قبل هيئة الإغاثة الإنسانية كسر الحصار المصري الإسرائيلي على غزة.. صعدت قوات الكوماندوز الإسرائيلية على متن السفينة، مما أسفر عن مقتل تسعة أشخاص.. اتهم إردوغان إسرائيل بـ (إرهاب الدولة) وناشد (المجتمع الدولي) في خطاب أمام البرلمان التركي، تُرجم في آن واحد إلى الإنجليزية، وفي حالات استثنائية، إلى العربية.. لمدة شهر، تجمع آلاف المتظاهرين أمام القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول لإدانة تصرفات تل أبيب.. ويضيف جينكينز، أن هذه الحادثة وقعت (في وقت كان فيه النفوذ السياسي للجيش التركي في تراجع حاد؛ حيث توقف التعاون العسكري بشكل شبه كامل).
ومع ذلك، وكما يذكر ملحق اقتصادي غربي، (كان لإسرائيل آنذاك أكبر جناح في معرض إسطنبول للأسلحة).. في الواقع، لم تُظهر التجارة بين البلدين أي تباطؤ.. ويخلص مورفان إلى أن (الواقعية السياسية سادت رغم ما حدث في دافوس عام ٢٠٠٨).. وقد عزز النجاح الاقتصادي لتركيا ـ حيث احتلت في ذلك العام المرتبة السابعة عشرة عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وحققت معدل نمو بلغ ٦٪ ـ مكانتها في العالم العربي، وكذلك قدرتها على الجمع بين الإسلام والديمقراطية.. لذا، عندما اندلعت ثورات ما سُمي ب (الربيع العربي) عام ٢٠١١، سعت أنقرة إلى استغلال تلك المكانة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، من خلال تحالفها مع جماعة الإخوان المسلمين، التي وصلت إلى السلطة في مصر، وبدا من المرجح أن تفعل الشيء نفسه في سوريا، أو هكذا كانت تأمل تركيا.. والآن، عارضت تركيا نظام الأسد، بعد أن تقرّبت منه منذ عام ٢٠٠٥.
في أكتوبر من ذلك العام، عرضت تركيا استضافة بعضٍ من كبار قادة حماس، الذين أُفرج عنهم مؤخرًا مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.. تصف غاليا ليندنشتراوس، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، كيف (غضّت أنقرة الطرف عن أنشطة الحركة: غسيل الأموال واستيراد البضائع من إيران، الخاضعة للحظر، إلى غزة عبر تركيا.. منحت الحكومة التركية جوازات سفر لقادة حماس، ثم منحتهم الجنسية).. ويضيف الدبلوماسي الإسرائيلي السابق، ألون ليل، (كانت تركيا تسمح لحماس بإقامة مقرها هناك، وتُمكّنها من تكريس نفسها للنضال الفلسطيني في الضفة الغربية.. لقد كانت تُضفي الشرعية على حماس).. وفي نظر نتنياهو، تُعتبر تركيا الآن العدو الأقرب.. إذا طلبت أنقرة منطقة حظر جوي في شمال سوريا أو تولت مسئولية المجال الجوي، فسيُعتبر ذلك ذريعةً للحرب من قِبَل رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي ينوي الحفاظ على حرية شنّ الغارات الجوية هناك وفي إيران.
بين جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحماس وإيران، أصبحت تركيا وجهةً رئيسيةً للموساد في سعيه لتجنيد عناصر.. ويضيف جينكينز، (كانوا مهتمين تحديدًا بأعضاء الحكومة التركية الذين قد تكون لهم صلات بحماس).. ونتيجةً لذلك، عمد هاكان فيدان، رئيس جهاز المخابرات التركي آنذاك، إلى الكشف عن هوية عشرة جواسيس إيرانيين يعملون لصالح إسرائيل.. وأعدمتهم سلطات طهران بعد بضعة أشهر.. في محاولة لطي صفحة الخلاف، عبّر الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، في الثاني والعشرين من مارس 2013، أثناء صعوده على متن طائرة الرئاسة الأمريكية، عن رغبته في توثيق العلاقات بين إسرائيل وتركيا.. واتصل نتنياهو بإردوغان، مقدمًا اعتذارًا أخيرًا عن هجوم مافي مرمرة، ووعد بتعويضات كبيرة للضحايا.. وفي تركيا، عُلّقت ملصقات كبيرة تُظهر إردوغان راضيًا، وفي الخلفية نتنياهو عابس الوجه، ورسالة تقول، (عزيزي رئيس الوزراء إردوغان، نحن ممتنون لك لأنك سمحت لبلدنا أن يشعر بهذا الفخر).. ومع ذلك، قدّمت أنقرة تنازلين رئيسيين، كانا ليُثبّطا من حدة الرأي العام لو عُرفا.. فقد قبل الأتراك ادعاء تل أبيب بأن الوفيات كانت نتيجة أخطاء عملياتية للجيش الإسرائيلي، مُسقطين بذلك تهمة التعمد.. في الوقت نفسه، وكما أشار المحلل قدري جورسيل، (تخلّت تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية عن المطالبة برفع الحصار عن غزة)، مع أن هذا كان بالتحديد سبب مهمة مافي مرمرة في مايو 2010.
في عام 2018، انتقلت السفارة الأمريكية إلى القدس.. وأدى قمع مسيرات الاحتجاج الناتجة عن ذلك إلى مقتل العشرات من الفلسطينيين.. وتصاعدت التوترات بين أنقرة وتل أبيب مرة أخرى.. وفي العام التالي، أطلقت إسرائيل وقبرص ومصر واليونان منتدى غاز شرق المتوسط، وهو منصة مشتركة لموردي المنطقة وناقليها ومشتريها.. وقد قوبلت هذه الخطوة بصدمة في القصر الرئاسي في أنقرة: إذ كانت احتمالات تركيا في أن تصبح مركزًا للطاقة تتراجع.. يوضح إيفرين بالتا، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أوزيجين في إسطنبول، (في هذه المرحلة، أدركت الحكومة التركية مدى عزلتها.. ولمنع ليبيا من الانضمام إلى المجموعة، وقّعت اتفاقية تعاون عسكري ومعاهدة حدود بحرية مع طرابلس).
في قمة النقب، مارس 2022، رفرفت أعلام البحرين ومصر والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة والمغرب وإسرائيل جنبًا إلى جنب.. أعادت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة العلاقات مع قطر، حليفة تركيا.. بدا أن شرق أوسط جديد يتشكل.. شرق أوسط قد تجد تركيا نفسها مستبعدة منه.. يوضح ليل، (لقد أخذ إردوغان، المنتخب للرئاسة عام 2014، زمام المبادرة في التحرك نحو التطبيع).. (لقد غيرت اتفاقيات إبراهام 2020 طريقته في رؤية الأشياء: لقد فهم أنها حسنت بشكل كبير موقف إسرائيل في الشرق الأوسط).. في سبتمبر 2023، التقى إردوغان ونتنياهو على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان من المقرر أن يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي بزيارة إلى أنقرة.. لذلك جاء هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، في الوقت الذي كانت تركيا تستعد فيه لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لم يُدِن إردوغان الهجوم، ورفض استخدام مصطلح (إرهابي)، واصفًا حماس بأنها (مجموعة من المقاتلين الأحرار الذين يسعون لحماية أرضهم.. ومع ذلك، طمعًا في تعيينه وسيطًا بين المتحاربين، طرح خطة لضمان الأمن في الأسابيع التي تلت الهجوم.. تجاهلت الأطراف الرئيسية، ومن أهمها الولايات المتحدة، هذه الخطة.. وقد قوبل هذا التجاهل باستياء في أنقرة، مما يُفسر التشدد في لهجتها الذي أعقب الهجوم.. وثّق متين جيهان، الصحفي التركي المنفي في ألمانيا، ما يراه عدد متزايد من المراقبين ازدواجية تركية: كلامٌ بلا فعل، تركيا تُعلن معارضتها لإسرائيل دون قطع العلاقات التجارية.. دقّق جيهان في الإحصاءات.. ويوضح قائلًا، (المصادر مفتوحة، لا سرّ في الأمر.. كل شيء واضحٌ هنا، ما عليك سوى النظر).. ويكشف، يومًا بعد يوم، على حسابه على (إكس)، عن حجم التجارة الجارية.. وقد وُصف بأنه (أكثر فعالية من المعارضة بأكملها مجتمعة).. وكما يُقرّ به النشطاء الذين يُنددون بـ (نفاق) الحكومة، (إنه يُؤدّي عملنا نيابةً عنا).. ويدعو جزءٌ كبيرٌ من الرأي العام التركي ـ 45% ينظرون إلى حماس بإيجابية، إلى إنهاء العلاقات التجارية مع إسرائيل.
بعد بضعة أيام، أعلنت تركيا وقف تصدير أربعة وخمسين منتجًا إلى إسرائيل، وفي الشهر التالي قطعت العلاقات التجارية معها تمامًا.. كلفت هذه العقوبات تركيا ثمنًا باهظًا؛ إذ تجاوزت قيمة صادراتها إلى إسرائيل خمسة مليارات دولار.. ولكن في الوقت نفسه تقريبًا الذي استقبل فيه إردوغان وفدًا من حماس بقيادة إسماعيل هنية، أُلغيت زيارته إلى واشنطن.. وأعلنت تركيا انضمامها إلى جهود جنوب إفريقيا لمقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة الإبادة الجماعية.
في القصر الرئاسي بأنقرة، ليس سرًا، أن تل أبيب لعبت دورها في نجاح هجوم هيئة تحرير الشام، الذي دعمته حكومة إردوغان، وساهم في سقوط نظام الأسد.. أنهك القصف الإسرائيلي حزب الله وأضعف إيران، وكلاهما من مؤيدي الأسد السابقين.. ولا يُرثى لمصير الحركة الشيعية في أنقرة: فقد قاتلت قوات المعارضة ـ بما في ذلك الجهاديين ـ المدعومة من تركيا.. يوضح هنري باركي، الأستاذ الفخري للعلاقات الدولية في جامعة ليهاي (بنسلفانيا)، (في الأساس، تجد إسرائيل وتركيا نفسيهما في مواقف مماثلة في سوريا.. كلاهما يحتل مساحة كبيرة من الأراضي السورية.. يواجهان تحديات أمنية متوازية: الأكراد بالنسبة للأتراك، وحزب الله وجماعات أخرى بالنسبة لإسرائيل.. لا يريد أي منهما رؤية الإيرانيين يعودون، على الرغم من أنه من غير المرجح أن يحدث ذلك).. إن إضعاف إيران، المنافس التاريخي، يناسب تركيا.
●●●
السؤال الآن: هل يمكن أن تصبح تركيا وإسرائيل حليفتين استراتيجيتين؟.
لقد سلّحت كلٌّ منهما أذربيجان، وقدّمت لها الدعم العسكري خلال حرب ناجورنو كاراباخ الثانية عام 2020، والتي انتهت بهزيمة أرمينيا.. يتذكر روسيف حسينوف، مدير مركز توبشوباشوف في باكو، (قبل السابع من أكتوبر، كانت أذربيجان في الواقع تحاول التقريب بين تركيا وإسرائيل.. وحتى يومنا هذا، تحافظ أذربيجان على تحالفها مع تركيا وشراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل).. وعلى الرغم من أن أنقرة منعت طائرة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوج، من التحليق فوق الأراضي التركية عندما زار باكو في نوفمبر 2024، إلا أن هذه البادرة كانت تهدف أساسًا إلى تهدئة النشطاء الأتراك المعادين لاستمرار تدفق النفط الأذربيجاني إلى إسرائيل عبر ميناء جيهان في جنوب تركيا.. ولكن هناك مشاريع بنية تحتية تركية ـ إسرائيلية أخرى تنتظر التنفيذ.. أحد هذه المشاريع، الذي شجعته أوروبا الحريصة على تقليل اعتمادها على روسيا، هو بناء خط أنابيب يربط حقل ليفياثان الإسرائيلي للغاز البحري بميناء جيهان.. وتسببت الحرب في غزة في توقف مناقشات هذا المشروع، لكن أنقرة لم تستبعد استئناف المحادثات بعد وقف إطلاق النار.
لم يمنع تقارب المصالح تصاعد التوترات منذ سقوط الأسد.. ويتوقع باركي، أن (تصبح سوريا مصدر خلاف جديد بين البلدين).. وتخشى إسرائيل من النفوذ التركي على الحكومة الجديدة في دمشق، وتريد سوريا ضعيفة لامركزية.. وقد احتلت إسرائيل منذ فترة طويلة مرتفعات الجولان، متجاوزةً المنطقة العازلة التي أُنشئت عقب حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، وتُعرب عن عزمها على (الدفاع) عن الدروز ضد الحكومة السورية الجديدة.. علاوة على ذلك، وصف وزير الخارجية الإسرائيلي، الشعب الكردي بأنه (الحليف الطبيعي) لإسرائيل.. ويعتقد الباحث السياسي، خليل كارافلي، أن استقلال روج آفا ـ وهي منطقة كردية تتمتع حاليًا بالحكم الذاتي في شمال شرق سوريا ـ يُشكل مصدر إزعاج أكبر لتركيا، نظرًا لقدرتها على (توفير حليف استراتيجي لإسرائيل، على مفترق طرق الأناضول وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام).. ويخلص كارافلي إلى أن (الطموحات الإسرائيلية تقف إلى حد كبير وراء الانفتاح الكردي التاريخي الحالي)، عقب دعوة عبد الله أوجلان في فبراير ٢٠٢٥ لحزب العمال الكردستاني لإلقاء سلاحه.
قال إردوغان في الجلسة الافتتاحية للبرلمان التركي، في الأول من أكتوبر 2024، (بعد لبنان، سيكون هدف إسرائيل التالي هو وطننا).. وبينما يؤكد العديد من المراقبين، وخصوصًا الإسرائيليين، أن تل أبيب لا تملك الموارد اللازمة لفتح جبهة إضافية ضد أنقرة، خصوصًا وأن المواجهة الكبرى مع إيران تبدو هاجس رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي.. لا يستبعد أحد الأطراف في المفاوضات الحالية في سوريا، احتمال نشوب صراع مسلح مع تركيا.. يقول، (في نظر نتنياهو، تركيا هي الآن العدو الأقرب.. إذا طلبت أنقرة منطقة حظر جوي في شمال سوريا، أو تولت مسئولية المجال الجوي، فسيعتبر ذلك ذريعة للحرب من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي ينوي الحفاظ على الحرية المطلقة في شن غارات جوية هناك وفي إيران).. مواجهة مسلحة بين قوتين عسكريتين كبيرتين في المنطقة، إحداهما حليفة للولايات المتحدة والأخرى عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو).. هذا أمرٌ يُبطل تمامًا مقولة الدبلوماسيين الأتراك، (كل شيء سيكون على ما يرام مع إسرائيل، لولا القضية الفلسطينية)!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق