تمرّ العلاقات السورية- الروسية بمرحلة توتر صامت، يعبّر عنها تراجع التفاعلات بين الطرفين، وغياب أي أخبار عن تعاون مشترك، أو تواصل دبلوماسي، في وقت تفتح دمشق أبوابها لمختلف الوفود الإقليمية والدولية، وتتواصل دبلوماسيًا مع أغلب القوى الفاعلة والمؤثرة، إقليميًا ودوليًا.
وذلك رغم محاولة الطرفين عدم إبراز هذا التوتر، فكل له أسبابه الخاصة، وكان الطرفان قد عبّرا، عقب سقوط نظام الأسد، عن رغبتهما في الاستمرار في التعاون وتطوير العلاقات القديمة، مع تأكيد دمشق على ضرورة معالجة أخطاء الماضي، واحترام إرادة الشعب السوري.
ويبدو أن دمشق بدأت بالفعل مسار تصحيح هذه العلاقات مع روسيا، عبر مراجعتها الاتفاقيات الاقتصادية، التي وقعتها روسيا مع النظام السابق. وتشير التصريحات الروسية الرسمية إلى أن المفاوضات المتعلقة بالوجود الروسي ضمن قاعدتي طرطوس وحميميم في اللاذقية، لا تزال جارية مع الجانب السوري، من دون أي نتائج واضحة حولها حتى الآن.
إستراتيجية ممنهجة لتفكيك العلاقات
تتميز العلاقات السورية- الروسية بالتعقيد والتشابك، فهي فضلًا عن كونها علاقات تمتد على مساحة حقبة زمنية مديدة منذ خمسينيات القرن الماضي، فقد تكثّفت خلال العقد الأخير بعد التدخل العسكري الروسي، والعُزلة الدولية التي ضُربت على نظام الأسد، وتحوّل روسيا إلى ما يشبه رئة تتنفس عبرها سوريا، التي باتت المصدر الأساسي للسلاح والقمح وماكينات الإنتاج والوجهة الأساسية للبعثات الطلابية.
كما أصبحت لغتها تُدرس في جميع المدارس والجامعات السورية، وقد وصل الأمر إلى حد الارتباط العضوي بين روسيا ومكونات مجتمعية سورية: العلويين والمسيحيين الأرثوذكس، من خلال الدين والمصاهرة والثقافة.
غير أن روسيا حاولت استغلال هذا الوضع للسيطرة على مفاصل الاقتصاد السوري بأسلوب كولونيالي، فقد استحوذت شركاتها، وعبر اتفاقيات قانونية، على معظم الأصول الاقتصادية السورية التي تدر عوائد مالية مرتفعة: النفط والغاز والفوسفات ومصانع الأسمدة وميناء طرطوس أهم ميناء في سوريا، وذلك ضمن شروط غير متوازنة ولمدد تعاقدية تصل إلى 50 عامًا قابلة للتجديد، ولا تتجاوز عوائد سوريا من هذه الأصول 35%.
إعلان
بالتأكيد لا يتناسب هذا الوضع مع ظروف سوريا التي تسعى إلى حشد مواردها لإنجاز الاستحقاقات الكبيرة المترتبة عليها في المرحلة المقبلة، ولا سيما على مستوى الإعمار، وتأمين الخدمات لملايين السوريين.
لكن في نفس الوقت لا ترغب الإدارة السورية الجديدة بالتصادم المباشر مع روسيا أو توفير الذرائع لها للعبث بالأمن الهش، لذلك اجترحت إدارة الشرع إستراتيجية تعتمد على أدوات قانونية لتفكيك السيطرة الروسية على الأصول الاقتصادية.
وبدت تطبيقاتها واضحة في إلغاء عقد استثمار ميناء طرطوس، نتيجة عدم إيفاء الشركة الروسية بالتزاماتها المنصوص عليها بالعقد، وكذلك كون الاتفاق مجحفًا بحق السيادة السورية، ما يمنح الطرف السوري الحق في الانسحاب استنادًا إلى اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات 1980.
ويبدو أن دمشق تخطّط لتطبيق هذه المنهجية على كامل الاتفاقيات التي وقعها نظام الأسد مع روسيا، وميزة المنهجية المذكورة أن أدواتها قانونية وفنية ولا تنطوي على صبغة سياسية مستفزة، ولا سيما أن روسيا صمّمت سيطرتها الاقتصادية في سوريا عبر القطاع الخاص، حيث جميع الشركات التي استحوذت على الأصول السورية هي شركات خاصة.
وهو ما يضعف الموقف التفاوضي الروسي، وربما تحاول روسيا الاحتفاظ بزخم تفاوضها للحفاظ على قواعدها العسكرية في الساحل السوري والتي تعتبر أهم استثمار إستراتيجي لموسكو منذ أيام القياصرة، نظرًا لما تمنحه لها من قوّة تأثير تمتد فاعليتها لتشمل قوسًا واسعًا يمتد إلى عمق أفريقيا، وسواحل المتوسط في ليبيا.
الأسباب والدوافع
تقف وراء التحرك السوري مجموعة من الأسباب تدفع بصانع القرار في سوريا الجديدة إلى تعزيز تحركه وتسريع عجلة تفكيك العلاقات مع روسيا:
انتهاء الحاجة وتوفر البدائل
في بداية تسلمها السلطة في دمشق لم يكن لدى الإدارة الجديدة تصور واضح عن طبيعة المواقف الدولية من التغيير، ولا سيما الموقف الأميركي، وبدرجة أقل الموقف الأوروبي.
وكانت الصورة ضبابية إلى حد بعيد، ولا سيما في واشنطن التي كانت بدورها تشهد عملية تغيير رئاسي، فكانت احتمالية بقاء العقوبات وإمكانية فرض أخرى جديدة عبر مجلس الأمن، احتمالًا واردًا في تصوّر حكام سوريا الجدّد.
ومن ثم فإن الحاجة ستكون كبيرة لروسيا كمظلة حماية من جهة، ومورد للتقنيات والأسلحة من جهة أخرى، وربما لاستخدام الوجود الروسي ورقة مساومة مع الغرب، وفوق ذلك الاستفادة من روسيا كعامل تهدئة في الداخل لما لها من تأثير على بعض المكونات السورية.
غير أن المشهد سرعان ما تبدل نتيجة ديناميات إقليمية ساعدت في وضع قاطرة العلاقات بين الإدارة السورية الجديدة والغرب على سكة فاقت سرعتها جميع التصورات، وانهارت معها العقبات الصلبة أمام تطوير العلاقة.
وهو ما ساعد على ظهور بدائل إقليمية ودولية، وشبكة حماية كبيرة للإدارة الجديدة، أصبح إزاءَها الاحتفاظُ بالعلاقات مع روسيا، بما تنطوي عليه من إشكاليات، أمرًا غير مبرر ولا منطقي، وتزامن هذا التطوّر مع انهيار منظومة فلول الأسد وانكشاف حدود قوّتها، والموقف الدولي منها.
أسباب سياسية
ليس خافيًا، أن فاعلية روسيا وطاقاتها، في اللحظة الراهنة، منصبة على تحقيق النصر في أوكرانيا، لوجود قناعة لدى الكرملين بأن انتصار روسيا في الحرب الأوكرانية سيشكل ديناميكية أساسية لإعادة التوازن الذي فقده الدور الروسي عالميًا، بما فيه النفوذ الروسي في سوريا، وهذا ما يدفع روسيا في اللحظة الراهنة إلى إبداء المرونة لتمرير هذه المرحلة، والاحتفاظ على الأقل بالوجود العسكري إلى حين تغيّر المعطيات.
إعلان
والواضح أن دمشق تقرأ جيدًا الأبعاد الإستراتيجية للموقف الروسي، لذا تحاول تغيير البيئة الإستراتيجية التي تستطيع روسيا من خلالها التحرك واستعادة النفوذ، عبر تغيير التوازنات الداخلية، وإعادة توزيع القوى بما يضمن تهميش الركائز الروسية في سوريا إلى حد بعيد، ونزع فاعليتها، تحت مبرّر شرعية السلطة الحالية، وحقها في احتكار القوّة، وضرب محاولات هز الاستقرار والعبث بوحدة البلاد.
وثمة سبب سياسي آخر يتمثل في مجاراة الهندسة الأميركية، إذ بات من الواضح أن واشنطن، عبر حراكها الدبلوماسي المكثف بشأن سوريا، وإجراءاتها فيما يخص إزالة العقوبات بشكل متسارع، وحديثها عن السلام بين سوريا وإسرائيل، إنما تنطلق من مشروع متكامل يربط بين الأمن والسياسة والاقتصاد، ويعيد تعريف سوريا الجديدة في إطار مشروع أميركي أوسع للمنطقة.
وفي ظل ذلك يبدو أن إخراج روسيا من دائرة التأثير في النطاق السوري سيكون شرطًا لازمًا لإتمام الهندسة، التي تجد فيها دمشق فرصة للخروج من عنق الزجاجة والالتحاق بعالم جديد ومختلف.
أسباب أمنية
تتعامل إدارة الشرع بحذر شديد مع الواقع الإستراتيجي المحيط بسوريا، وهو نوع من التعامل شكّلته عبر تجربتها الإدلبية، حيث كانت محاطة على الدوام بفاعلين داخليين وخارجيين، هم بتصوّرها- إن لم يكونوا أعداء- منافسون، ولديهم أهداف ومصالح تتضارب مع مصالحها، وبعد سيطرتها على السلطة في دمشق، بات المشهد أكثر تعقيدًا لارتباطه بمصالح فاعلين من وزن أكبر، وأكثر قدرة على الفعل من خصومها ومنافسيها المحليين في السابق.
تدرك إدارة الشرع أن سوريا أرض صراع المشاريع الجيوسياسية التي لا ترحم، والصراع فيها صفري ولا يحتمل المساومة ولا الخسارة في نظر فاعلين يقدّرون أنهم أمام فرص ومخاطر يتوجب عليهم إزاءها اللعب بوعي، وإدراك تام للفوز باللعبة، وإلا سيواجهون مخاطر خسارة الفرص وما تنطوي عليه من فقدان النفوذ وضياع المصالح، وينطبق هذا الأمر بدرجة كبيرة على إسرائيل وروسيا.
وفي هذا السياق، ثمة مخاوف، وإن لم يتم الإعلان عنها، من إمكانية تقاطع المصالح الروسية مع مشروع إسرائيل القاضي بتفكيك سوريا إلى كيانات صغيرة.
وقد كشفت قناة "كان" الإسرائيلية عن وجود اتصالات روسية إسرائيلية حول الشأن السوري في أثناء الحرب مع إيران، غير أن هذه الاتصالات بدأت في وقت مبكر، حيث قام رومان هوفمان، أحد أقرب المستشارين العسكريين إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بزيارة موسكو، في مارس/ آذار، لم يُكشف عن تفاصيل ما دار خلالها.
لكنّ صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، كتبت أن هدفها تركز على تعزيز التعاون في المجال الأمني، لا سيما على خلفية تطورات الوضع في سوريا، كما دعت إسرائيلُ الولايات المتحدة الأميركية لضمان بقاء روسيا في قواعدها العسكرية في سوريا، لمواجهة احتمالات نمو نفوذ تركيا في البلاد بشكل مفرط.
الخلاصة
يشهد النفوذ الروسي تراجعًا متسارعًا في المنطقة، في سياق تراجع الدور الروسي على المستوى العالمي، الناتج عن ضعف الفاعلية والعجز الذي يضرب مختلف القطاعات الروسية، وقد أدركت دمشق هذا الواقع، حيث لم تعد لدى روسيا القدرة على فرض معادلات عسكرية أو سياسية على الأرض، في وقت تشهد فيه شبكات التحالف في الشرق الأوسط تغيرات عميقة.
تعمل القيادة السورية على إعادة تعريف العلاقة مع روسيا، ووضعها في إطارها الفعلي وفي حدود قدرات روسيا وفاعليتها، إذ من غير الجائز أن تملك موسكو مساحة واسعة من السيطرة والنفوذ على الاقتصاد والأمن السوري، وهي باتت بالفعل قوّة هامشية ضعيفة، ولن تستطيع تقديم أي قيمة مضافة لسوريا التي تبحث عن فرص، وعلاقات تدعم مسارات نمائها وتطورها.
ذلك لا يعني أن روسيا لا تملك خيارات- حتى وإن كانت ذات طابع انتحاري- يمكنها التأثير في أمن واستقرار سوريا، وتدرك إدارة الشرع هذه الحقيقة، لذا تعمل على اتباع منهجية لتفكيك العلاقة مع موسكو لضمان تفكيك المخاطر التي قد تترتّب عن محاولة إهانة روسيا الجريحة في آسيا الوسطى، والقوقاز، والشرق الأوسط.
إعلان
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق