فشل حكومات قيس سعيد ومصير تونس المقبل - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تعيش تونس منذ انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021 وتداعياته حالة من الاختناق السياسي والتردي الاجتماعي والاقتصادي يتعاظمان يومًا بعد يوم، في ظل غياب حلول ناجعة لسلطة بلا مشروع، واستمرار نظام الحكم الحالي بقيادة قيس سعيد في إدارة الدولة بأسلوب فردي يثير الكثير من الانتقادات داخليًا وخارجيًا.

تتجلى الأزمة التونسية في ثلاثة مكونات رئيسية مترابطة تعكس ملامح المشهد العام: سلطة عاجزة وفاقدة للقدرة على الحكم، شعب صامت ومفصول عن الشأن العام، ومنظومة مدنية وسياسية مشتتة فاقدة لأدنى قدرة على مقاومة الانقلاب وإنهائه.

إلى جانب ذلك، تضيف البيئة الإقليمية والدولية طبقة من التعقيد، حيث يظهر دعم خارجي غير معلن لإطالة عمر النظام، ما يعمّق الاستعصاء القائم، ويؤجل انفجار الأزمة دون أن يمنع حدوثه في المدى المنظور.

فما ملامح هذا الانسداد؟ ومن يملك زمام المبادرة للتغيير؟ وهل نحن أمام ولادة جديدة قادمة من الشارع، أم محاولة تغيير ناعمة من داخل المنظومة نفسها؟

حكومة بلا رؤية.. ودولة على الهامش

تونس اليوم على حافة الانسداد، ثمة شعب مفصول منشغل بمعيشته ومنظومة بلا مشروع ودولة بلا أفق، يسيّرها نظام شديد المركزية، لكنه فقير الأداء وعديم الفاعلية.

منذ إعلان الرئيس قيس سعيد "تدابيره الاستثنائية" في 25 يوليو/ تموز 2021، دخلت تونس في مسار سياسي جديد قائم على تركيز السلطات بيد واحدة، وتقويض ممنهج لمعظم المؤسسات التمثيلية، من البرلمان بتعليق عمله ثم حلّه نهائيًا، إلى حلّ المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وتعويضه بآخر معيّن بقي مشلولًا منذ تشكيله نتيجة الشغور في أعضائه، وصولًا إلى قتل السياسة عبر تجفيف منابع الحياة السياسية والحزبية بتهميش الأحزاب والمجتمع المدني، واعتقال معارضين ونشطاء بتهم سياسية، والتضييق على الحريات، ورفض كل دعوة لحوار وطني فعلي يجمع مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية.

إعلان

هذا المنعرج، الذي رُوّج له كمشروع "تصحيح مسار"، لم يحقق أي تحسّن في الملفات الحيوية، بل بالعكس، زادت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تعقيدًا، وتدهور خدمات المرفق العام، خاصة في الصحة والنقل والتعليم، وارتفاع نسبة البطالة.

تبدو الحكومة الحالية، التي تعمل تحت مظلة قصر قرطاج، عاجزة عن تقديم رؤية اقتصادية واضحة، أو إصلاح هيكلي متماسك. وبدلًا من الاشتغال على وضع برامج تنموية حقيقية تضع حدًا لمعاناة التونسيين وضيق معيشتهم، تتخبط في إدارة يومية متعثرة، وتلجأ إلى المعالجات الظرفية.

فشلت حكومات الرئيس قيس سعيد الأربع التي عيّنها بعد انقلابه في تدبير الشؤون الاجتماعية والاقتصادية، وساهمت في تعميق أزمة تونس المالية من خلال ارتفاع الدين العام، وتراجع قيمة الدينار، وندرة بعض المواد الأساسية، وارتفاع نسبة التضخم التي أثّرت بشكل مباشر على القدرة الشرائية للمواطن، وعلى ارتفاع نسب البطالة والفقر، خصوصًا في المناطق الداخلية.

النجاة الفردية

في الضفة الأخرى، يعيش الشارع الشعبي التونسي حالة من العزلة السياسية والانكفاء على الذات. المواطن التونسي، الذي خرج بمئات الآلاف في 2011 مطالبًا بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، يبدو اليوم أكثر انشغالًا بقوت يومه ونجاته الفردية.

أصبحت الهجرة غير النظامية، خاصة نحو إيطاليا، حلمًا جماعيًا للشباب، بل وحتى للعائلات.

لم تعد مشاهد القوارب المتهالكة تثير الحيرة أو الدهشة، بل تحوّلت إلى مؤشر على يأس جماعي متفاقم من إمكانية إصلاح الأوضاع بما يتيح للتونسيين حياة كريمة.

هذه القطيعة بين الشعب والشأن العام، والتي تغذيها حالة الإحباط العامة وتآكل الثقة في النخب، تقوّض إمكانات التغيير الديمقراطي السلمي. حين ينشغل المواطن فقط بارتفاع الأسعار، أو البحث عن البنزين، أو مغادرة البلاد، فإنه لا يجد الطاقة للاحتجاج، أو حتى للاهتمام بما يجري في أروقة الحكم أو في اجتماعات النخب وتحركاتهم.

معارضة مرتبكة ومجتمع مدني متردّد

أما المكون الثالث من المشهد التونسي، أي المنتظم السياسي والمدني، فلا يزال يعاني من ضعف التنسيق وضبابية الرؤية، رغم خطورة المرحلة.

المعارضة التقليدية ممثلة في جبهة الخلاص الوطني وهيئات وأحزاب أخرى، لا تزال تدور في حلقة مفرغة من البيانات والتصريحات وبعض التحركات الاحتجاجية، دون أن تنجح في استقطاب الشارع أو بناء مشروع جامع.

في المقابل، باتت منظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، تتردد في لعب دور حاسم، بل يبدو أنها فضّلت التراجع والاكتفاء بالمراقبة الصامتة.

هذا التردد وغياب المشروع الجامع، يمنح النظام الحالي فرصة لمزيد من التمدد، بل ويجعل من فكرة التغيير السياسي عملية مؤجلة، إن لم تكن مستحيلة على المدى القريب، إلا في حال حدوث صدمة أو انفجار شعبي غير متوقع.

رهان الخارج: الاستقرار على حساب الديمقراطية

ما يزيد الوضع تعقيدًا هو دور القوى الخارجية، خاصة الجزائر وإيطاليا، إلى جانب الاتحاد الأوروبي (European Union)، التي يبدو أنها اختارت التعامل مع قيس سعيد كـ"شريك واقعي" في ظل أولويات ملحة تتعلق بالأمن والهجرة غير النظامية.

إعلان

تدعم الجزائر، انطلاقًا من هواجس أمنية وإقليمية، النظام الحالي لضمان استقرار حدودها وتثبيت تأثيرها غرب ليبيا والتوقي من العدوى الديمقراطية.

أما إيطاليا، التي تواجه ضغوطًا داخلية بسبب الهجرة غير النظامية، فقد اختارت الشراكة مع سعيد، ووقعت اتفاقيات تُصنّف تونس كمجرد "حاجز بشري" و"حارس بحري" ضد الهجرة نحو أوروبا.

من جهته، فقد اختار الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من خطاباته الحقوقية، عدم ممارسة ضغوط حقيقية ضد التراجع الديمقراطي في تونس، وفضّل منطق "الاستقرار أولًا"، حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وعليه، يبدو أن الخارج، بدل أن يدفع نحو حل سياسي، يراهن على تأبيد الوضع الحالي، ما دامت مصالحه الإستراتيجية مضمونة مع حكم قيس سعيد حتى وإن كان استبداديًا.

من أين سيأتي التغيير؟

أمام هذا المشهد المتشابك المتسم بانسداد الداخل وتواطؤ الخارج، تطرح الأسئلة الملحة نفسها: من أين سيأتي التغيير؟ هل من مورد شعبي من خلال انفجار جديد يعيد تشكيل المعادلة؟ أم مورد من داخل النظام نفسه عبر تصدعات محتملة؟

الخيار الأول، أي التغيير عبر الشارع، يبدو اليوم مستبعدًا مؤقتًا، في ظل صمت المجتمع وقطيعته مع السياسة، وتجذر ثقافة "الخلاص الفردي"، إضافة إلى الآلة الأمنية التي باتت أكثر صرامة في قمع أي تحرك احتجاجي منظم، وإلى المرسوم عدد 54 سيئ الذكر الذي يمنع التونسيين من نقد السلطة والتعبير عن معارضتهم لها، والذي تعدّ ضحاياه حتى اليوم بالآلاف من المساجين ما بين إعلاميين ومدوّنين وسياسيين صدرت في حق العديد منهم أحكام قاسية.

أما الخيار الثاني، فيكمن في بروز "انشقاقات ناعمة" تؤشّر على وجود تباينات وتجاذبات داخل بنية النظام، سواء في دوائر النفوذ المحيطة بالرئيس، أو على مستوى البيروقراطية الإدارية ومؤسسات الدولة المختلفة، مما قد يمهّد الطريق لتفاهمات جديدة تفتح المجال أمام انتقال سلمي للسلطة، أو إعادة هيكلة موازين القوة داخل النظام.

يظلّ الخياران مرهونين بعنصر المبادرة، الذي لا يزال غائبًا، وبتوفر كتلة وطنية قادرة على جمع شتات القوى المدنية والسياسية في مشروع وطني واضح، يعيد بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم.

تونس في مفترق حاسم

لا يمكن أن تبقى تونس على هذا الحال طويلًا بين انسداد الداخل وتواطؤ الخارج. التوازن القائم حاليًا بين سلطة مستفردة، وشارع مفصول، ومجتمع منهك، ومعارضة ضعيفة، وخارج غير مكترث، هو توازن هشّ وقابل للانهيار في أية لحظة، ما يجعل المشهد التونسي مأزومًا ومفتوحًا على المجهول.

ويبقى الخطر الأكبر اليوم ليس فقط في غياب الديمقراطية أو تراجع الحريات، بل في فقدان الثقة الجماعية في إمكانية الإصلاح، وفي انكفاء الأمل الوطني لصالح الأمل الفردي أو الهروب الجماعي. لا تزال الفرصة قائمة، لكنها تضيق يومًا بعد يوم.

التغيير الحقيقي لن يكون فقط في الأسماء أو المؤسسات، بل في إعادة بناء الثقافة السياسية التونسية على أسس جديدة مثل الثقة والتشاركية ووضوح التوجهات.

تونس اليوم في حالة عطب شامل بلا بوصلة، وفي حالة فراغ كبير تبحث عن مشروع وعن أمل. لا تحتاج إلى بطل جديد، بل إلى مشروع وطني جامع يُنقذ ما تبقى من روح الثورة، ويمنح الأجيال القادمة سببًا للبقاء، والعمل، والمشاركة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق