القاهرة- تحوّل قلب العاصمة المصرية، القاهرة، إلى مركز أزمة وطنية حادة جراء اندلاع حريق هائل في سنترال رمسيس، أحد أهم المراكز الحيوية في قطاع الاتصالات المصري، والمسؤول عن تمرير ما يقرب من 40% من حركة الاتصالات المحلية والدولية.
ويقع هذا السنترال التاريخي، الذي افتتح لأول مرة في عام 1927 على يد الملك فؤاد الأول تحت اسم "دار التليفونات الجديدة"، على بُعد خطوات من ميدان التحرير، ما يجعله في قلب العاصمة ومركزًا لتقاطع الاتصالات الرقمية.
الحريق الذي استمر ساعات عدة، لم يكن مجرد حادث عارض، بل كشف هشاشة البنية الرقمية في البلاد، وأدى إلى شلل واسع النطاق لم يقتصر على الإنترنت والاتصالات، بل امتد إلى البنوك، والتطبيقات الإلكترونية، وحتى البورصة المصرية ومطار القاهرة الدولي، وفق مراقبين.
هذه الحادثة طرحت تساؤلات عن مدى جاهزية الدولة المصرية للتعامل مع الطوارئ التكنولوجية، ووجود بدائل حقيقية لضمان استمرار الخدمات الأساسية في أوقات الكوارث.
الحريق والأضرار الأولية
واندلع الحريق داخل سنترال رمسيس فجأة، وامتد بسرعة إلى الطوابق المختلفة للمبنى، ما أدى إلى حالة من الذعر داخل المنشأة ووقوع عدد من الضحايا.
وبالرغم من التدخل السريع لفرق الحماية المدنية، فإن الحريق تسبّب في وفاة أربعة موظفين تابعين للشركة المصرية للاتصالات، وإصابة العشرات، إضافة إلى خسائر مادية قدرت مبدئيًا بعشرات الملايين من الجنيهات.

ولم تقتصر الأضرار على البنية المادية للسنترال، بل امتدت إلى تعطيل كامل حركة الاتصالات والبيانات التي تمر عبر هذا المركز الحيوي.
وعانى المستخدمون في القاهرة الكبرى ومحافظات أخرى من انقطاع شبه تام في الإنترنت، وتوقف في خدمات الاتصالات الثابتة والمتحركة، إلى جانب تعطل منصات الدفع الإلكتروني وخدمات التحويل البنكي، وهو ما ألقى بظلال كثيفة على القطاعات الخدمية والمالية في البلاد.
إعلان
وأشار مصدر أمني مصري إلى أن الفحص المبدئي يُرجّح أن يكون الحريق ناجمًا عن ماس كهربائي، في حين باشر خبراء المعمل الجنائي جمع الأدلة من موقع الحريق لتحديد السبب النهائي بدقة، وسط ترقب شعبي ورسمي للنتائج التي قد تُلقي الضوء على مدى الإهمال الفني أو التقصير في إجراءات الصيانة والسلامة داخل المبنى.
تداعيات اقتصادية وخدماتية شاملة
وتسبّب الحريق في تعطيل شبه كامل لمنظومة الدفع الإلكتروني في البلاد، وواجه المواطنون صعوبات شديدة في سحب الأموال من بعض فروع البنوك التي تعتمد على شبكة الإنترنت.
كما توقفت بشكل كامل خدمات التحويل اللحظي مثل "إنستاباي" والمحافظ الإلكترونية، وهي أدوات حيوية يعتمد عليها ملايين المصريين في معاملاتهم اليومية.
وفي خطوة غير مسبوقة، اضطرت البورصة المصرية إلى تعليق التعاملات يوم أمس الثلاثاء، الذي تلا الحريق، نظرا لانقطاع خدمة الإنترنت عن قاعة التداول ونظم الربط الإلكتروني بين شركات الوساطة المالية، قبل أن يتم استئناف العمل بالبورصة الأربعاء.
وأثار هذا القرار -حينها- مخاوف المستثمرين، وطرح تساؤلات عن قدرة السوق المالية على الصمود أمام الكوارث التقنية.
ولم يكن مطار القاهرة الدولي بمنأى عن التأثيرات، حيث تسببت الأزمة في تأخير 22 رحلة جوية مجدولة، بسبب الارتباط الوثيق بين أنظمة التشغيل والاتصالات الداخلية، ما أضاف بعدًا لوجيستيًا معقدًا للأزمة وأظهر مدى اعتماد البنى التحتية الوطنية على مركز رقمي واحد دون وجود مراكز بديلة أو خطط طوارئ فعالة.
غضب واسع
وتجاوزت تداعيات الحريق الأبعاد التقنية والاقتصادية لتصل إلى مستويات سياسية وشعبية ملتهبة. فقد عبّر المواطنون عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن سخطهم من انعدام الجاهزية، وعدم توفر أي خطة استجابة سريعة، بينما تحوّلت هذه المطالب إلى ضغوط برلمانية واضحة داخل مجلس النواب المصري.

وشهد البرلمان جلسة عاجلة حضرها عدد من النواب الغاضبين الذين وجّهوا انتقادات لاذعة للحكومة، وخاصة لوزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الدكتور عمرو طلعت، وسط مطالب متصاعدة بإقالته من منصبه وتحميله مسؤولية الإخفاق في إدارة الأزمة والقصور في تأمين منشأة بهذا المستوى من الأهمية.
ووصف النائب عمرو درويش الحريق بأنه تجاوز حدود الأزمة ليصل إلى مستوى الكارثة، وقال في مداخلته خلال الجلسة، إن الدولة بأكملها توقفت بسبب الحريق، منتقدًا ما اعتبره "تناقضًا فجًا" بين خطاب الحكومة المتكرر عن التحول الرقمي، وواقع الخدمات الأساسية التي انهارت في ساعات.
واعتبر درويش أن تأثير الحريق وصل إلى المستشفيات والبنوك وخطابات العلاج على نفقة الدولة، قائلاً بوضوح: "البلد كله توقف، والناس مش عارفة تتصرف".
حاجة ملحة لإعادة هيكلة البنية الرقمية
في تقييم أوسع للأزمة، اعتبر الخبير المصرفي الدكتور هاني أبو الفتوح، أن ما حدث يمثل جرس إنذار حاد للمؤسسات المالية والحكومية على حد سواء.
وأوضح أن الخسائر الناتجة عن تعطل الخدمات المصرفية والإلكترونية كانت جسيمة، وقد أربكت العملاء، وشكّلت تهديدًا حقيقيًا لاستقرار الأعمال التجارية، خاصة في قطاعات حيوية تعتمد كاملا على البنية الرقمية.
إعلان
وأكد أبو الفتوح أهمية تدخل البنك المركزي المصري مباشرة لإعادة تقييم خطط الطوارئ في البنوك والمؤسسات المالية، مشددًا على أن وجود خطة مكتوبة على الورق لا يكفي، بل يجب اختبارها دوريًا بتمارين محاكاة واقعية، وإنشاء مراكز بيانات بديلة في أماكن بعيدة عن مراكز التكدس السكاني، لضمان استمرارية العمليات الحيوية عند وقوع أي خلل في المركز الرئيسي.
من جهته، اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور خالد الشافعي، أن الكارثة كشفت عن ضعف هيكلي في منظومة الاتصالات والربط التقني في مصر، وأكد أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة كانت الأكثر تضررًا نظرًا لاعتمادها شبه الكامل على المعاملات الرقمية.
ولفت الشافعي إلى أن حجم الخسائر الاقتصادية لا يمكن حصره بعد، لكنه يُقدّر بعشرات الملايين من الجنيهات، وقد تتضاعف آثاره على ثقة المستثمرين المحليين والدوليين في حال استمرت حالة الارتباك وعدم وضوح الرؤية الحكومية.
ودعا الشافعي إلى نقل مقر البورصة المصرية إلى منطقة ذات مواصفات تكنولوجية أكثر أمانًا، مثل "القرية الذكية"، معتبرًا أن استمرار وجودها في قلب القاهرة يُشكّل خطرًا على سير العمليات في حال حدوث أي طارئ مشابه مستقبلاً، بسبب الكثافة العمرانية والضغط على البنية التحتية.
مركز الاتصالات في قلب العاصمة
سنترال رمسيس ليس مجرد منشأة فنية، بل يُعد العمود الفقري للبنية التحتية الرقمية في مصر. فقد افتتح في 25 مايو/أيار من عام 1927، في عهد الملك فؤاد الأول، وكان يُعرف آنذاك باسم "دار التليفونات الجديدة".
ومنذ ذلك الحين، لعب دورًا محوريًا في تطوير قطاع الاتصالات المصري، وتحول مع مرور العقود إلى مركز رئيسي لمعالجة الاتصالات والبيانات.

يمر عبر هذا السنترال أكثر من 40% من حركة الاتصالات المحلية والدولية، كما يُعد نقطة الدخول الأساسية لدوائر الألياف البصرية البحرية الدولية، وهي التقنية التي تعتمد عليها البلاد في توفير خدمات الإنترنت عالية السرعة.
ومنه، تُربط العاصمة بجميع المحافظات بشبكة من الكوابل والأجهزة التي تشكل العصب الرئيسي للاتصال الرقمي في الدولة.
ويواجه السنترال، بحكم موقعه في منطقة مزدحمة ومكتظة بوسط القاهرة، تحديات لوجيستية معقدة، ويبدو أن هذه التحديات قد لعبت دورًا في تأخير الاستجابة أثناء الحريق، وهو ما يدفع اليوم نحو مراجعة جذرية لمنظومة الطوارئ والإغاثة التقنية في البلاد، وإنشاء مراكز احتياطية قادرة على التدخل السريع والحفاظ على استمرار الخدمات دون انقطاع، بحسب الخبراء.
وتتجاوز الأزمة التي فجّرها الحريق في سنترال رمسيس حدود الخسائر المادية المباشرة، لتصل إلى عمق العلاقة بين المواطن والسلطات في الثقة في قدرة المؤسسات على حماية الخدمات الأساسية.
كما أنها تفتح الباب واسعًا لمراجعة شاملة لكل ما يتعلق بالتخطيط الرقمي، وإدارة المخاطر، والتوزيع الجغرافي للبنى التحتية الحساسة.
0 تعليق