القاهرة- بينما يخيم الحزن على مصر، بعد مصرع 19 فتاة تعمل باليومية في جمع العنب، تتراوح أعمارهن بين 13 و15 عاما، في حادث تصادم مروري مروع الجمعة 27 يونيو/حزيران الجاري بمحافظة المنوفية، يمتلأ دفتر أحوال المختصين المصريين في مكافحة عمالة الأطفال بقصص إنسانية ومآس، رغم ما تعلنه الحكومة المصرية من إجراءات لتقويضها.
وكشف المسح القومي لظاهرة عمل الأطفال في مصر عن أن هناك 2.76 مليون طفل عامل في مصر، من إجمالي عدد السكان الذي وصل إلى 108 ملايين تقريبا، في حين تقع أعلى نسبة لعمل الأطفال في محافظات الفيوم والمنيا والشرقية وسوهاج ودمياط على الترتيب.
ووفق الإحصاءات الرسمية، فإن عدد الأسر المصرية يبلغ 26.5 مليون أسرة، في حين يبلغ عدد الأطفال في مصر 39.5 مليون طفل، كما بلغ معدل البطالة 6.3% من إجمالي قوة العمل بالربع الأول من 2025.
وفور وقوع حادث فتيات المنوفية الأخير، بادرت الحكومة إلى دفع تعويضات لضحايا الحادث بلغت 500 ألف جنيه لأسرة كل متوفاة و70 ألفا لكل مصابة، مع استمرارها في خطة وطنية لمكافحة عمالة الأطفال، بجانب التطوير الشامل للطريق الدائري الإقليمي، محل الحادث الأخير.
وقال وزير الشؤون البرلمانية والتواصل السياسي محمود فوزي -في بيان رسمي- إن "الحادث سيكون نقطة انطلاق لتصحيح ما يمكن تصحيحه، وإعلاء مبدأ المحاسبة فالأرواح أمانة، ولن نفرّط فيها".
" frameborder="0">
حكايات أليمة تلاحق الفتيات
"تعددت الطرق والموت واحد"، هكذا تقول الأكاديمية الحقوقية بدار الخدمات النقابية والعمالية، أمل عبد الحميد، للجزيرة نت، إذ تتذكر واقعة طفلة كانت تعمل في مزرعة في قرى المنيا جنوبي البلاد، عام 2021، وتعرضت للاغتصاب، ورغم ذلك قتلها ذووها، في حين يعتصرها الألم، كما تقول، وهي تتذكر وقائع تحرش واسعة رصدتها على البنات العاملات في مجال الزراعة بالصحاري المصرية، حيث لا يجدن أي حماية.
إعلان
وتضيف الحقوقية أمل عبد الحميد أن الأمر الصعب كذلك عندما تقابل فقراء دفعهم العوز إلى إخراج أطفالهم للعمل، وتحاول إقناعهم بخطورة ذلك، ولكنها لا تستطيع الرد عليهم عندما يبلغونها بعدم قدرتهم على توفير الطعام، مشيرة إلى قصة أخرى رصدتها لإحدى الفتيات العاملات خرجت بابن رضيع لها للعمل في مزرعة تحت ضغط الفقر، ورجعت به متوفيا بعد أن لدغه ثعبان.
وتوضح أن زياراتها للمحافظات المختلفة في إطار عملها كشفت عن أن عمالة الأطفال في المزارع بالتحديد، بلا رقابة ولا مساءلة، مشيرة إلى أن هناك انتهاكات خطيرة ومآسي ضد عمالة الأطفال تحدث دون متابعة إعلامية كالحادث الأخير، مثل زيادة ساعات العمل التي تصل إلى 12 ساعة تبدأ من فجر كل يوم، بجانب حوادث التحرش والاغتصاب التي تنال من البنات، فضلا عن عدم وجود طعام وشراب ومياه وأدوات سلامة في الأماكن غير المأهولة في الصحاري، موضحة أن عاملات الزراعة ثم عاملات المنازل الأكثر تضررا.
وتطالب الحقوقية المصرية بالتفتيش الجاد والحقيقي على المصانع والمزارع لمنع عمالة الأطفال بالتزامن مع إيجاد فرص عمل كريمة لذويهم، مؤكدة أنه كلما زاد الفقر زادت عمالة الأطفال بمصر، داعية إلى محاسبة المسؤولين عن ذلك التقصير.
جهود حكومية
من جانبه، يقول الأمين العام المساعد لاتحاد عمال مصر محمد عبد ربه للجزيرة نت: "لا يوجد شك في جهود الدولة الكبيرة في مجال مكافحة عمالة الأطفال، خاصة أن لدينا ترسانة تشريعية كبيرة للمواجهة وحماية الأطفال".
ويلقى عبد ربه باللوم على بعض الأسر المصرية التي تدفع بأبنائها منذ سن السابعة للعمل، تحت السيارات وفي الحقول وغيرها، دون مراعاة للمخاطر مهما كانت الظروف الاقتصادية، مؤكدا أن عمل الأطفال له سن محدد وأصول، وعلى صاحب العمل رفض أي مخالفة، في حين يدعو عبد ربه الحكومة إلى زيادة الاهتمام بالتوعية بخطورة عمالة الأطفال، عبر حملات إعلامية كبيرة.
" frameborder="0">
وأطلقت وزارة العمل الخطة الوطنية لمكافحة أسوأ أشكال عمل الأطفال في مصر، ودعم الأسرة "2018-2025″، بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، وأكثر من 17 جهة حكومية تماشيا مع الاتفاقيتين الدوليتين 138 لسنة 1973 بشأن الحد الأدنى لسن الاستخدام، و182 لسنة 1999 بشأن أسوأ أشكال العنف.
واستهدفت الخطة مجموعة من المحاور الاقتصادية والاجتماعية، عبر بعض البرامج، منها المبادرة الرئاسية "حياة كريمة" لدعم الأسر الأكثر احتياجا، ومبادرة "تكافل وكرامة" التي تقدم دعما نقديا للأسر التي لديها أطفال أقل من 18 سنة لمساندتهم على الاستمرار في التعليم، إضافة إلى إطلاق وزارة العمل مشروع "مهني 2030" بهدف توسيع فرص العمل اللائقة، بجانب تفعيل برنامج "وعي للتنمية المجتمعية" في حملة تحت شعار "الطفل مكانُه المدرسة.. لا لعمل الأطفال"، وإصدار قانون العمل الجديد.
سخرة في صورة عمل
في حديثه للجزيرة نت، لا يتذكر الفلاح المصري زهير عبد العال خطوط هذه الخطة الوطنية، بقدر ما يتذكر الطفل الذي يعمل تحت درجة حرارة غير مسبوقة في وقت سابق بمصر، بينما الجميع في بيوتهم يخافون أن تراهم الشمس، تدمي قلبه مشاهد أخرى منتشرة في محافظته بني سويف (وسط مصر شمالي الصعيد) لأطفال يعملون في صناعة الطوب، حيث كان يقف حزينا وهو يراهم في عمل كالسخرة.
إعلان
يشير عبد العال إلى أن قطاعات الزراعة وصناعة الطوب والورش الصناعية تحصد العدد الأكبر من عمالة الأطفال، وفق مشاهدته في نطاق معيشته، موضحا أن هناك قرى شهيرة في مجال عمالة الأطفال في محافظته، منها قريتا باروط (مركز بني سويف)، وجزيرة أبو صالح (مركز ناصر)، اللتان بهما عمل في قطاع حصاد المحاصيل، في حين يؤكد أن الفقر وغياب الرقابة من مكاتب العمل سيدفعان الناس إلى عدم التراجع، رغم بشاعة الحوادث المستمرة بحق الأطفال العاملين، وفق تقديره.
وتعددت وقائع حزينة ولدت من رحم معاناة عمالة الأطفال، من أبرزها حادث 21 مايو/أيار 2024 الشهير -المعروف إعلاميا ب "معدية أبو غالب"- الذي عصف بأرواح 26 فتاة من العمالة اليومية، تتراوح أعمارهن بين 14 و20 عاما في أثناء ذهابهن للعمل بإحدى المزارع.
التعليم والتوعية سلاحان للمواجهة
أما المدير التنفيذي لجمعية وادي النيل لرعاية عمال المحاجر بالمنيا (وسط مصر شمالي الصعيد) حسام وصفي، فيروى -للجزيرة نت- قصة مؤلمة، لطفل (10 سنوات) صعد إلى المحجر للعمل، ليحصد قليلا من المال، ولكن عاد في المساء بعاهة مستديمة، مؤكدا أن التطور التشريعي في مصر حقق نجاحات كبيرة في مجال حماية الطفل وتقويض عمالة الأطفال، ولكن عدم الاهتمام الكافي بالتعليم والتوعية المناسبة لكل الأسر بحقوق الطفل، وتراجع الأوضاع الاقتصادية، تقف بكثافة وراء استمرار الأزمة.
في السياق ذاته، يوضح مدير مركز الأرض لحقوق الإنسان كرم صابر -للجزيرة نت- أنه لا تغيب عن مخيلته مشاهد أطفال، في محافظة بني سويف، تتراوح أعمارهم بين 10 و15 سنة، أصيبوا إصابات بالغة إثر سقوط إحدى كسارات الرخام عليهم، بدون سابق إنذار.
ويؤكد ضرورة الاهتمام بتعزيز الحماية الاجتماعية والصحية والاقتصادية للأسر المصرية، ومحاصرة الفقر، مشددا على أن تعثر السياسيات الحكومية يلقي بظلال سلبية على واقع البيوت المصرية ويعزز عمالة الأطفال.
وكشفت دار الخدمات النقابية والعمالية -في تقرير حقوقي موثق- عن أن قطاعات الزراعة والصناعة والتعدين والخدمات المنزلية، وعمالة الأطفال المتشردين والمتسولين -في ما تعرف بظاهرة "أطفال الشوارع"- هم الأبرز في مجال أسوأ أشكال عمل الأطفال بمصر.
0 تعليق