أحمد القيسي: المجحف بحق «الهايكو» يسيء إلى نفسه.. وأعيش صراعاً يرسم ملامح نصوصي - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في نصّ الشاعر الدكتور أحمد بن يحيى القيسي، ما في شخصه من محبة وعطاء ووشائج تواصل، ولفت انتباه إلى ما وراء صورة الأشياء، وهو شاعر تحوّلات بوعي، رغم احتفاظه بجذوره الأولى، غير وجل من المُدن التي لم تنزع عنه رداء براءته الأولى؛ ومن يقف على إجاباته في هذا الحوار سيُدرك أن الصدق نبع التجربة الذي لا ينضب، والأدب شعور إنساني وتهذيب ذاتي، قبل أن يكون حبراً على ورق. فإلى نصّ الحوار؛

• ما هي نواة تجربتك الشعرية؟

•• الذات في تعاطيها اليومي مع الأشياء والمواقف واللحظات العابرة، ومع الما ورائيات، وأسئلة الوجود. وما إلى ذلك.

أعيش صراعاً داخلياً مع الذات، وهو الذي يرسم ملامح القصيدة التي أكتبها، فالأنا حاضرة في كل نص، ولم أتمكن من الفكاك منها، ربما يراها بعض النقاد مأخذاً، وأراها سمة، وقد تجلت أكثر ما تجلت في مجموعتي «لستُ هنا.. هل رآني أحد؟»، وهي المجموعة التي تجسدت فيها ملامح ذلك الصراع الذي أشرت إليه، حتى مع فكرة (الموت) التي لم أعثر على صورة لها غير الغياب، وإن تنوعت أسبابه.

• ماذا عن مغذيات الذائقة المبدئية؟

•• لا بد أن يكون التراث هو المغذي الأول للذائقة، وهو تسلسل طبيعي للتكوين الثقافي، ولا أظن أن أديباً لم تتفتح عيناه على نصوص التراث شعراً ونثراً، أذكر حتى هذه اللحظة شغفي بنصوص ألف ليلة وليلة وأنا في المرحلة الثانوية، وهذا الكتاب حببني في القراءة، وقادني بعد ذلك للغوص في كثير من المصنفات الكبرى.

من الشعراء الذين قرأت لهم في البدايات، وكنتُ أرى في تجربتهم امتداداً طبيعياً للشعر القديم شوقي وحافظ والبارودي.

• بمن تأثرت شعريّاً في البدايات؟

•• لا أنكر أن نزار قباني هو الاسم الألمع لكثير من شعراء جيلي في البدايات، ربما كان السبب قصائده التي توهجت بأصوات أشهر المغنين العرب.

لكن التأثير الجوهري تشكّل مع مجموعة من الشعراء من أمثال محمود درويش وسميح القاسم ومحمد الماغوط، وأمل دنقل، وغيرهم، وهم من مرحلة واحدة.

هذه الأسماء لها تأثير بَيّن في معظم التجارب الشعرية العربية التي جاءت بعدهم.

• هل كانت القصيدة العمودية ميدانك الأول؟

•• يُحمد لتجربتي أنها لم تكن محدودة، ولم تتوقف عند شكل شعري معين، ففي البداية حاكيت النموذج العربي الأول في الشعر، وهو القصيدة العمودية.

لكن لم أكن متعصباً له، فقد كنت أقرأ قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وأبحث عن أرقى نماذجها، وهذا البحث مكنني من العبور إلى أشكال الشعر الأخرى، وغايتي الإبداع. وهو الأهم من وجهة نظري، فالشكل مجرد آنية، والتعصب يجعل المبدع يدور في حلقتي المحاكاة والنظم القاتلتين للإبداع.

• متى انتبهت للخط الفاصل بين الشعر والنُظم؟

•• لا يمكن أن أجزم بلحظة اكتشاف معينة، فالأمر أشبه ما يكون بالمعرفة التي تتراكم وتتنامى مع الوقت، والجميل في الأمر أن نكتشف بين حين وآخر أن ذائقتنا تتقدم وترفض نصوصاً كانت تحتفي بها في السابق، لا أنسى أنني في يوم من الأيام كنت مولعاً ببعض القصائد، واليوم عندما أستعيدها أستغرب من إعجابي السابق بها.

بحثنا المستمر عن نماذج أعلى هو الذي يجعلنا ندرك أن الشعر ليس مجرد وزن وقافية، أو زخارف بلاغية، أو معرفة بالنحو. فهذه بدهيات لدى الشاعر.

• كيف بدأت التحولات نحو التفعيلة ومن كان حادي التحولات؟

•• معظم قصائد التفعيلة التي تمر بنا ليست بعيدة عن النموذج الخليلي، سوى أنها أخلّت بالترتيب العددي المعروف للبحر الشعري، وكثير من شعراء الشطر يكتبونها، أو لهم محاولات فيها على الأقل، ولكن بعض النماذج كانت محفزة على محاكاتها، لأنها مغايرة للنموذج السابق، ليس على مستوى الشكل فحسب، بل وعلى مستوى المضامين، وأساليب التعبير، والجملة الشعرية، والصورة، وغير ذلك، خذ على سبيل المثال الشاعر أمل دنقل؛ الذي أعتبره شخصياً المُجدِّد الحقيقي للقصيدة الحديثة.

أما تجربتي الشخصية في قصيدة التفعيلة فقد بدأت بقصيدة (وتسألني)، ولم تكن كل أسطرها تفعيلة، إذ كان جزؤها الثاني عمودياً، وقد كتبتها سنة ٢٠٠٨م.

• لماذا كان خيارك الثالث قصيدة النثر؟

لم أعارض أو أعترض يوماً على شكل شعري، لإيماني العميق أن الإبداع لا يتوقف عند حدود شكل معين كما تزعم بعض الأصوات، فقصيدة النثر ليست مهرباً من الإيقاع الخارجي، أو عجزاً عنه، فهي نمط شعري مختلف لغة ومضموناً عن بقية الأشكال، لذلك صمدت، ثم هيمنت على المشهد الثقافي، وسلكت طريقها إلى مبدعيها ومتذوقيها.

وأنا أميل إليها أكثر من بقية الأنواع الشعرية، أجد في لغتها وفي تعاطيها مع الأفكار فتنة وسحراً يجذباني لقراءتها، وكذلك لكتابتها.

• كيف ترى حضور قصيدة الهايكو عربياً ومحليّاً؟

•• أظن أن قصيدة الهايكو في الأعوام الثلاثة الأخيرة بدأت تثبت حضورها في المشهد، لا أقول إن حضورها يوازي حضور التفعيلة والنثر والخليلية، ولكنه شهد قفزات، لأن المتلقي بدأ يجد النماذج الحقيقية والإبداعية لهذا النص الذي كان يقدمه أكثر ما يقدمه الجاهلون به.

في العالم العربي مبدعون تستحق تجاربهم أن يسلط الضوء عليها، ولكنهم بعيدون عن الأضواء، لذلك كان همي في بداية هذا المشروع التعريف بتلك الأسماء التي فاجأت نصوصهم القراء بما تحمله من دهشة.

حضور قصيدة الهايكو يتزايد يوماً بعد يوم، ويكفي أن يكون وجود هذا المصطلح مألوفاً في مختلف وسائل الإعلام، فهذا بحد ذاته نقلة نوعية.

• بماذا ترد على من يصف قصيدة الهايكو بقصيدة محاكاة لا جذور لها؟

•• قصور الرؤية لدى بعض المهتمين بالأدب يحرضهم على مهاجمة كل جديد قبل أن يُمنح مساحة كي يثبت فيها حضوره أو يتلاشى. والدافع لهذا الهجوم غالباً ما يكون غيرة على الأصالة.

قصيدة الهايكو عالمية، أثبتت حضورها في معظم الآداب، وكتبت بمختلف اللغات، وأعتقد أن الغيرة الحقيقية تجعلنا نضم هذا الفن إلى أدبنا لا أن نحاربه من أجل إلغائه، لكي نثبت للعالم أن لغتنا حية، وأن أدبنا منفتح على الآداب العالمية.

الأصالة لا تعني الانغلاق، ولو تمسكنا بهذه الرؤية القاصرة لأصبحنا بلا أدب، فأكثر الأجناس التي نكتبها الآن وافدة، ولم يتبق لنا من أدبنا الأصيل سوى القصيدة العمودية.

• هل أجحف نقاد وشعراء بحق قصيدة النثر والهايكو؟

•• بالتأكيد، ولكنهم بهذا الإجحاف يسيئون إلى أنفسهم، ما رأيك مثلاً فيمن تنبأ بالعمر القصير لقصيدة النثر، ألم يثبت الوقت خللاً في نظرته لهذا النوع الذي أصبح الأكثر حضوراً في المشهد، حتى على مستوى المنابر والمسابقات.

قصيدة الهايكو تشق طريقها الآن، ولها أنديتها، وكتبها، ومجلاتها، ومساحاتها، وفعالياتها، ولن يعيق طريقها في المشهد الأدبي شيء.

• ما رأيك بمن يقتحم كل فنّ جديد بدون أدواته الخاصة؟

•• ليست المعرفة بالأدوات فحسب هي التي تجعلنا نقتحم الفن الجديد، بل يجب أن نسأل أنفسنا عما سنقدمه في هذا الفن، ما الإبداع المنتظر؟

فإما أن تقدم ما يشار إليه، وإلا فالأمر سيكون مغامرة باسمك، وستكون عاقبته وخيمة على المبدع.

أما المجازفة الأكبر فهي الولوج إلى عوالم فن دون معرفة به.

• ألا تخشى من الطارئين على الهايكو؟

•• في هذا الوقت لا، لأن المتصدين لهم كثر، ولست وحدي، والخطر الأكبر على الهايكو زال، فالمشوهون لهذا النص هم أول من قدمه، ثم بعد ذلك جاءت بعض الأندية لتصحح الأخطاء التي ارتكبها السابقون بجهلهم أو بتساهلهم.

الهايكو أصبح واضحاً للكثير الآن، وما زال المجتهدون في مضماره يعملون على تقديمه بأنصع صورة.

• إلى أين ستذهب القصيدة مستقبلاً، وهل تتوقع صوراً وأجناساً جديدة في ظل حضور الرقمنة؟

•• القصيدة باقية ما بقي الإنسان، فالشعر إكسير العيش، ولا يمكن أن أتخيل مجتمعاً في عصر من العصور بلا شعر.

أما ظهور أجناس شعرية جديدة فهذا محتمل، أو على أقل تقدير تغيّر في أسلوب القصيدة، وفي لغتها، فما نكتبه الآن لن يكون ملائما لطبيعة الناس والحياة بعد 100 أو 200 عام من الآن، ولن يتداوله المهتمون إلا بصفته تراثاً.

• بين الشعري والنقدي بأيهما ترجح كفة يومياتك؟

•• الشعر أقرب ما يكون إلي، حتى في قراءاتي، أقرأ أكثر ما أقرأ بصفتي متذوقاً لا ناقداً، فالنقد يقتل متعة النص. لذلك أؤجله كثيراً أمام دهشة النصوص التي تقع ما بين يدي.

• لمن تقول شكراً من الشعراء والنقاد؟

•• لكل من كان وفيًّاً لتجربته، دون تحديد اسم، وما أكثرهم يا صديقي، ولا نختلف على الأوفياء فهم أشهر من أن نشير إليهم بأسمائهم.

• هل من شعراء يفوتهم القطار في كل مرحلة؟

•• نعم، وحتى في هذه المرحلة، ولأسباب كثيرة، بعضهم لا يطور أدواته الشعرية، فيظل يكرر نفسه حتى ينفر منه القارئ، وبعضهم يعجز عن تقديم نفسه بصورة تليق بإبداعه، وغير ذلك من الأسباب.

كتب التراث لم تحتفظ بما كتبه جميع الشعراء في العصور الماضية، فبعضهم فُقِدت نصوصه، ولم يصل منها إلا القليل، وقد يتبين لك السبب إن وصلتَ إلى أخبارهم.

وفي هذه المرحلة لم يختلف الأمر، فما أكثر المغمورين الذين لم يقدموا أنفسهم، أو لم يعملوا على نصهم ليخرج منافساً.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق